الرئيس الفرنسى السابق يتفقد المعسكرات الفرنسية دليل جديد يثبت تورط فرانسوا ميتران في جرائم تعذيب وقتل ضد المجاهدين الجزائريين أثناء حرب التحرير... وثائق فرنسية سرية أزيح عنها الستار مؤخراً في باريس تظهر الجانب الخفي وربما المخزي للرئيس الفرنسي الأسبق، وتحول صورته من رجل اليسار الذي يدعم حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها من الرجل الذي ألغي عقوبة الإعدام عام 1981 إلي رجل تلطخت يداه بدماء الجزائريين الثوار بعد حكمه بإعدامهم في أواخر الخمسينيات... أسرار جديدة وحقائق مثيرة تسرد بالتفاصيل لأول مرة عن فترة حرب التحرير الجزائرية في كتاب ضخم "فرانسوا ميتران وحرب الجزائر" والذي صدر حديثاً للمؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا والصحفي المعروف بمجلة لوبوان فرنسوا مالي، بعد نحو عامين من البحث والتحقيق قضاها المؤلفان داخل أروقة المجلس الأعلي الفرنسي للقضاء. قبل قرابة عقد، وبالتحديد في مايو 2001 فجرت صحيفة اللوموند الفرنسية مفاجأة من العيار الثقيل حين كشفت أن الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران كان يعلم بممارسات التعذيب أثناء حرب الجزائر عندما كان وزيراً للعدل عامي 1955 و1957. وأثيرت قضية التعذيب أثناء حرب الاستقلال بالجزائر في فرنسا بعد نشر الجنرال بول أوساريس، القائد السابق لأجهزة الاستخبارات بالجيش الفرنسي أثناء حرب الجزائر، لمذكراته "أجهزة خاصة، الجزائر 1957- 1955 التي أقر فيها بجرائم التعذيب والقتل للجزائريين دون محاكمتهم خلال عامي 1954 و 1962وأكد علم ميتران بهذا وأن كل صغيرة وكبيرة كانت تحدث هناك. ويذكر أن ميتران بوصفه وزيرا للعدل آنذاك وقع في عام 1956 مرسوما لتطبيق قانون "يتيح للحكومة اتخاذ كل الإجراءات الاستثنائية بهدف إعادة الأمن". وقد أثارت هذه الاعترافات التي أفردتها الصحيفة استهجان الصحافة وعدد من المسئولين السياسيين الفرنسيين آنذاك، كما ثارت التساؤلات بشأن دور وموقف ميتران في هذه الفترة. إلا أن الصحيفة حاولت أن تخرج ميتران من دائرة الاتهام، فنشرت مقتطفات من رسالته لرئيس الوزراء الفرنسي "جي موليه" بتاريخ مارس عام 1957 حصلت عليها من أندري روسلي الذي كان يشغل منصب مدير مكتبه، ينبه فيها ميتران رئيس الحكومة إلي التجاوزات التي ترتكب بالجزائر في عمليات القمع. وأشارت الصحيفة إلي أن الرسالة لا تبرئ ساحة ميتران فاختياره البقاء في حكومة دموية وعدم الاستقالة يعني اشتراكه في تلك الجرائم. وبالرغم من خطورة تلك التصريحات والتي جاءت علي لسان قائد من داخل الجيش الفرنسي شارك في عمليات القمع والقتل بأمر من ميتران إلا أن الحكومة الفرنسية لم تلتفت إلا لمعاقبة القائد أوساريس، واكتفت بإطلاق تصريحات لوزير الدفاع الفرنسي وقتها آلان ريشارد عن أن الوزارة ستتعاون وبشكل أساسي مع المؤرخين للكشف عن حقيقة ما جري في الجزائر، فهي علي خلاف ما تبديه فأنها غير راغبة في فتح هذا الملف الذي سيضر أسماء كبيرة في غني عن ذكرها. وثائق رسمية وستظل التساؤلات التي تثار من وقت إلي آخر عن دور وموقف الرئيس ميتران كلما تطرق أحد لوحشية ما حدث في الجزائر بلد المليون شهيد خلال احتلال فرنسا لها، وعدم ملاحقة المسئولين عن تلك المجازر ومحاكمتهم هي المحرك الأساسي للعديد من الباحثين والمؤرخين في محاولة منهم لإيجاد دلائل ملموسة في هذا الشأن. لذا حرص المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا والصحفي فرنسوا مالي أن يكون كتابهم "فرنسوا ميتران وحرب الجزائر" مستنداً علي وثائق رسمية فرنسية -أفرج عنها خلال السنوات الماضية- وتسجيل تصريحات واعترافات لشهود عيان عاصروا الحرب، حيث درسوا بدقة عدداً هائلاً من الوثائق وصل إلي 400 وثيقة من محاضر جلسات المجلس الأعلي للقضاء ووزارة العدل وحتي المكتب الجامعي لأبحاث الاشتراكيين. وقال ستورا بمناسبة إصدار الكتاب إنه أراد الاستماع إلي صوت الجزائريين الذين كانوا مصدراً مهماً لكشف الأسرار فشقيق أحد الذين أعدموا بالمقصلة ومسئول آخر سابق في الحزب الشيوعي الجزائري أدلوا بمعلومات لم تعلن من قبل. وشمل الكتاب أيضاً شهادات لأشخاص ومسئولين من فرنساوالجزائر عايشوا تلك الفترة بينهم المؤرخة "جورجيت إيلجي" التي شهدت الأحداث كصحفية ثم كمستشارة في الإليزيه اعتباراً من عام 1982 وشخصيات أخري وافقت للمرة الأولي علي التطرق إلي هذا الجانب المجهول من حياة ميتران السياسية مثل "روبير بادينتر" رئيس المحكمة الدستورية الفرنسية الأسبق ووزير الخارجية الفرنسي الأسبق "رولان دوما" و"ميشيل روكار" رئيس وزراء فرنسا الأسبق وزعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي و"جان دانيال" الصحفي الفرنسي الجزائري الأصل. وقال ستورا إن المؤرخ جان لوك اينودي كان قد فتح ثغرة في هذا الماضي ووضع في 1986 لائحة أولي للذين أعدموا خلال حرب الجزائر. دماء الجزائريين وبنجامين ستورا - ولد في قسنطينة شمال الجزائر- من أبرز الباحثين في تاريخ المغرب العربي والاحتلال الفرنسي، ارتبط اسمه بكشف خفايا الفترة الاستعمارية في الجزائر. فأعاد ستورا النظر في سياسة الجنرال شارل ديجول، من خلال كتابه الصادر عن دار النشر لافون الفرنسية العام الماضي 'ديجول الغامض... خياره من أجل الجزائر' حيث كشف فيه المؤرخ الفرنسي، أن "الجنرال شارل ديجول الذي عاد لسدة الحكم عام 1958 لم يرغب أبدا في دمج الجزائريين في الجمهورية الفرنسية بالرغم من تبني الجمهورية الفرنسية لمطلب الجزائر الفرنسية، ورغم كل محاولات الحكومات الفرنسية المتتالية للقضاء عليها، خاصة أن مرحلة رئاسة ديجول كانت الأعنف والأكثر دموية ضد الثورة. وفي تصريحات سابقة لستورا قال إن ديجول كان في كل خطبه يؤكد فرنسية الجزائر، وما يؤكد ذلك تمسك فرنسابالجزائر مقابل تفريطها في 12 مستعمرة في إفريقيا جراء قوة الثورة. ويفتح الآن ستورا بالتعاون مع مالي ملفاً آخر يتعلق بالعدالة الفرنسية أثناء حرب الجزائر في الكتاب السالف ذكره... الذي أكد بالوثائق والمستندات تاريخ ميتران الدموي الذي بناه علي دماء الجزائريين ليصل إلي السلطة. فعندما غادر فرنسوا ميتران وزارة العدل في مايو 1957 في أوج حرب الجزائر، كان 45 جزائرياً قد أعدموا بالمقصلة، بأمر منه، ظنا منه أن ذلك سوف يقضي علي جذوة الثورة والتحرر. فميتران، الذي هو من أنصار الاستعمار الفرنسي، حيث رفض 80٪ من طلبات العفو وذلك انطلاقاً من ولائه المطلق لفكرة دعم النظام الاستعماري دون قيد أو شرط. وأشار إلي أن توجهاته عند التصويت في المجلس الأعلي كما وصفها جان كلود بيرييه الرجل الوحيد الذي مازال علي قيد الحياة من أعضاء المجلس آنذاك كانت قمعية ولا يمكن معارضتها. وأضاف المؤلفان أن هذه كانت رؤيته للجزائر وكان يعتقد أنها الحل الامثل. وكان ميتران سياسيا طموحا يريد الوصول للسلطة لذا كان عليه تقديم ضمانات تؤكد ولاءه لأفكار الحكومة المتشددة المناصرة للاستعمار وفكرة أن الجزائر جزء من فرنسا، ليضمن بقاءه داخل تلك الحكومة والتدرج فيها. و يؤكد المؤرخ ستورا، أن تاريخ ميتران يشكل جدارًا أسود من الجرائم، بصفته أول رئيس فرنسي اشتراكي ينتخب فيما بعد عام 1981 وألغي عقوبة الإعدام خلال حملته للانتخابات الرئاسية عام 1981. ففي مايو من نفس العام عفا الرئيس الفرنسي عن فيليب ريس آخر شخص كان محكوماً عليه بالإعدام، وفي أغسطس وافق مجلس الوزراء علي مشروع القانون الذي قدمه ميتران ذاته وألغت عقوبة الإعدام. إلا أن المقصلة التي حرر من تحتها رقاب كانت هي المقصلة ذاتها التي طالت المناضلين الجزائريين بأمر منه. وأن القلم الذي وقع به علي مشروع قانون لإلغاء هذه العقوبة كان هو نفسه الذي رفض80٪من طلبات العفو.