أطرب صوتها الخلاب أمة بأسرها.. ذابت بل تلاشت الفوارق بين الشعوب وبين الطبقات.. هشم الصوت الساحر القادم من علياء ربوة الخلود الفجوة بين الروح والجسد.. فتطهرت الشهوة وسمت الغريزة الملتاعة تحت وطأة الآهات والأنات الآمرة الناهية لأم كلثوم.. «الديفا»، البريمادونا هي أشبه بشهر زاد ألف ليلة، فلقد اختارت الليل ملاذا لشدوها ألف أغنية وأغنية، تصدح بجسارة مدهشة متجاوزة تابوهات عصرها لتعلن قداسة الغرام، فالجميع من أهل الهوي فاتوا مضاجعهم واتجمعوا ياليل صحبة وأنا معهم، يرتشفون من لذة الألم في الحب والسياسة، فلا أحد ينجو من عذابات هجر الحبيب وتجليات الوصال ولا من وجع المحن الوطنية، الخميس الأول من كل شهر لا أحد ينام في مصر بل في الأمة العربية.. الملوك والزعماء.. الشعراء والبسطاء.. الباشوات، البكوات، والغفراء العشاق والفرقاء فالكل في حالة تأهب ويقظة للحدث الليلي المتجدِّد، القصور المنيفة، البنايات الشاهقة، أسطح المنازل، صوامع وسط البلد، المقاهي، البدرومات، الحقول الخضراء المكسوة بالزمرد.. الجميع في انتظار أن يشرق الليل القاهري الأزرق حيث السماء المنجومة بثغور فضية تضوي وتتماهي مع سيدة الوجود العربي في قاهرة قصيّة.. عصيّة مغايرة عن قاهرة اليوم.. أفتقدها. نسيم القاهرة الليلي ينثر أريج عطر أربيج، ديوريسيمو وشانيل نمرة 5 والقمر بدر.. والقمر هلال من ماسٍ وخيال، والقمر هلال في جيدها، في صدرها في فتحة ثوبها الوردي من دانتيل، جيبور ومخمل والوشاح الموسلين في يدها، هي أشبه بلوحة بديعة لتمارا دي لامبيكا وشعرها يحاكي عتمة الليل الشرقي روّضته بمشبك من الماس. الضوء الخافت والصوت الساطع، الصادح خلف الأبواب الموصدة يتوحد مع خبيئة الأفئدة الملتاعة، يخترق طلاسم الغرام بالشعر والنثر، القصيدة التي صارت متاحة للعامة، فمصر كلها كانت من الصفوة، فلا فرق بين العامة والخاصة، ففي تلك الأيام الخوالي الكل يتمتع بذائقة جمالية فاتنة، كنا شعبا يعرف العشق الراقي ولا يعرف الابتذال، شعبا كله من النخبة، فأسكرت القصائد مثل الأطلال، أراك عصي الدمع، أكاد أشك في نفسي، أصبح عندي الآن بندقية، مصر التي في خاطري، «السد العالي» أمة بأسرها، فكانت عملية فصد بديعة لكل من اكتوي بعشق الحبيب أو الوطن، في قصر النيل والأندلس بعد الثامنة تدق ساعة النشوة المعمرة للوجود، يعلو، يحلِّق صوت أم كلثوم في كريشيندو يرصِّع ليل المحروسة، فتثمل الآذان وتدمع العيون وتدفأ القلوب التي أنهكها العشق، الغموض، والأمل، الشوق والحلم.. «هجرتك»، حيرت قلبي، جددت حبك، لسة فاكر، فكروني، هلت ليالي القمر، ليلي ونهاري، حب إيه، ليه تلاوعيني، أنا في انتظارك، مادام تحب بتنكر ليه؟ أين ذهب هذا الأمس أحاول استرجاعه من خلال مشاهدة حفلاتها التي تبثها روتانا، أتأمل الشعب المصري آنذاك.. هو شعب آخر في بلد آخر، أتألم لما صارت عليه وإليه الأمكنة والأزمنة، أشعر بالغربة، بالنفي الزمني، أبشع أنواع النفي.. هاهو الشعب الآخر يطربه الفن الراقي وقدسية العشق، الحياء غلالة رقيقة، شفافة تغلف أعتي الرغبات فتسمو وتحلِّق مرصعة بآهات وأنات الإبداع الدافق، ألق الرهافة يرصِّع الوجود.. وهاهو الوجود يحاكي حفلة متجدِّدة البهجة والشجن، رقصة مسكرة تترنم بحلاوة الدنيا، وفي حضرة الست حتي مرارة الهجران، وقساوة الحزن والأسي محتملة نتقاسمها مع مريديها.. فأنت في بلاط العشق ومحراب الهوي لست وحدك، أيضا في انكسارات الوطن لست وحدك، فأم كلثوم صبّحت علي مصر و(مسّت) علي مصر، وكانت تتبرع وتجمع الأموال وتقيم الحفلات من أجل مصر، ولم يكن آنذاك من يسخر من العطاء للوطن عندما يمر بالأزمات والمحن فلم يكن هناك ما يُسمّي بروّاد التيس بوك والنشطاء الذين يستسيغون أخذ الأموال من الخارج! من الآخر!! أما أن نعطي لوطننا في أوان الشدائد.. هذا هو العار!! زمن موشوم بالعبث والتدليس. أفتح خزائن ذاكرة طفولتي عندما رأيت أم كلثوم في فرح عفت ابنة الموسيقار، المطرب والمبدع الأعظم محمد عبدالوهاب، أتقنت ذاكرتي الانتقائية اكتناز اللحظة، المشهد، فأوقفت فراره إلي العدم ووقوعه في براثن القاتل الصامت.. النسيان.. أدهشني الفرق الشاسع بين أم كلثوم علي الشاشة وفي الواقع، فهي تجنح إلي العملقة، تحاكي تمثالا ضخما، وصوت رخيم يشعل سكون الليل، المستكين.. وجدتها علي الطبيعة كائنا، دقيقا خلابا، رقيقا، نحيلة، سمراء، مبتسمة تتفاعل مع صخب الحياة، خلعت التاج الملكي، السلطاني مؤقتا لتهبط من جبال (الأوليمب) حيث آلهة الإغريق وأنصاف الآلهة، ووجدت من شاركني ذات الانطباعات، هو الأستاذ الدكتور طبيب الأورام الشهير د. ياسر عبدالقادر، وهو ابن الأستاذ صلاح عبد القادر أمين عام المؤسسة المصرية العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون والمسرح والموسيقي في الستينيات، في عام 1964 كان ياسر عبدالقادر في مرحلة الطفولة يذهب مع والده إلي فيلا أم كلثوم بالزمالك، واجتاحه ذات الانطباع، هاهي الست التي زلزل صوتها وأطرب أمة بأسرها دقيقة الحجم، خفيفة الظل، شعرها الفاحم فاحش الكثافة، يزيِّن صالون الفيلا تمثال لقط أسود، ويتساءل الطفل آنذاك عن هذا القط، الصامد، الصامت، هل هو جالب للحظ، هل هو رمز للتأمل، هل هو ميراث مصر الفرعونية لتلك السيدة العاشقة لمصر، وكان يذهب بصحبة والده ووالدته إلي حفلاتها، واكتنزت ذاكرته حفلة «إنت فين والحب فين»، ونضج الطفل الذي كان وأصبح مولعا بالفن يتذوّق الإبداع بكل ألوانه. أما عفاف هانم أباظة ابنة الشاعر العظيم عزيز باشا أباظة وأرملة الأديب الأشهر ثروت أباظة فحكت لي عن ذكرياتها مع سيدة الغناء العربي منذ إرهاصات الأربعينيات، كان عزيز باشا محافظا للمنيا ثم الفيوم وكانت أم كلثوم تذهب إلي منزلهم لبضعة أيام وأيضا، وفي بنها كانت تغني وفي منزل ثروت أباظة بغزالة طال السهر وأقبل الفجر فخرجت إلي الفاراندا لتؤذن بدون ميكروفون بطبيعة الحال، فجاء أهل البلدة من كل فج عميق، فكان الصوت السحري أشبه بندّاهة فادحة الغواية، وتقول عفاف هانم وهي أيضا كاتبة وأديبة إن عزيز باشا كتب قصيدة السد العالي وغنتها أم كلثوم من بين ماغنت له: «كان حلما فخاطرا فخيالا فاحتمالا فأضحي حقيقة لا خيالا»، وتقول عفاف أباظة إن من أهم ما يميِّز أم كلثوم قوة الصوت ورهافة الحس. وأذكر أن والدتي كانت علي اتصال مع السيدة فردوس زوجة دسوقي بك ابن شقيقة أم كلثوم، وكان هناك مجموعة من الصديقات يذهبن إلي حفلاتها ويرتبطن بصداقة مع سيدة العشق عواطف والي، ألفت موسي، مديحة يسري، قدرية زوجة حسن إبراهيم نائب رئيس الجمهورية إبان حكم الرئيس عبدالناصر، وسألت عواطف هانم والي نائب رئيس حزب الوفد في زمن فؤاد باشا، وكانت علي صلة وطيدة بأم كلثوم، قالت لي كانت تهتم بأناقتها، ولكل حفلة في كل شهر ثوب جديد، كانت فاسو اليونانية وبيير كلوفس مصمِّم الأزياء الأشهر يوناني أيضا وشقيقتان من يهود مصر راشيل وروز ثم فيورين، كانت مصر آنذاك كوزموبوليتانية وكانت سيدة الطرب تستطيع أن ترتدي أفخر الثياب من البيوت الفرنسية، ولكنها كانت تعتز بمصريتها، وتقول عواطف هانم ملاحظة طريفة «إن في حفلاتها كان الرجال أكثر تفاعلا من النساء!! وأكثر شاعرية!! كان زمان وولي!»، وكانت تعشق أربيج وشانيل، وأخيرا أرجع إلي ما قاله لي نجيب محفوظ: «إن العرب اختلفوا علي كل شيء باستثناء ولعهم بأم كلثوم»، وأقول الجميع من أهل الهوي.