مات محمد صلي الله عليه وسلم، وحزن من شهد موته حزناً لم يره أحد من قبل في موقفٍ عظيم، ووجد الصحابة وآل بيت النبي أنفسهم في حيرة عظيمة فكيف يتعاملون مع جسده الطاهر، وكيف يوارون جثمانه الشريف في موقع أصبح معلوماً للبشرية جمعاء، وجاء اختيار قبر رسول الله ليجعله النبي الوحيد الذي يوجد له قبر لا خلاف عليه، ولا يتطرق الشك إلي موضع دفنه في غرفة زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها، بينما ضاعت من ذاكرة البشرية أماكن جميع قبور الأنبياء، رغم كثرة ما ينسب إليهم من قبور، إلا أنها في الغالب مشاهد رؤيا وقف الصحابة حائرين أمام جسد النبي الشريف يتساءلون كيف يغسّلونه، هل يجردونه من ثيابه كما يحدث مع جميع المسلمين أم يغسلونه وهو مرتدٍ ثيابَه، فلما اختلفوا وتداخلت الأصوات وارتفعت، ألقي الله عز وجل عليهم النوم حتي أن رؤوسهم مالت علي صدورهم، ثم سمعوا صوتاً يأتي من ناحية البيت يقول لهم: "أن غسلوا النبي صلي الله عليه وسلم، وعليه ثيابه". وتولي تغسيله علي بن أبي طالب والفضل ابن العباس رضي الله عنهما، وراح علي بن أبي طالب يمسح بطنه ليخرج منها ما تبقي فيها من فضلات كما هي العادة في الغُسل، لكن لم يخرج من جسده الشريف شيئاً، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً وكان طيباً حياً وميتاً". وغسّلوا النبي صلي الله عليه وسلم وعليه قميصه، وكان الذي تولي تدليكه بالقميص علي بن أبي طالب، أما الفضل فقد كان يحتضنه والعباس بن عبد المطلب يصب الماء، وغسل النبي صلي الله عليه وسلم ثلاثاً بالسدر "ورق النبق"، وأما الماء الذي غسل به فكان من بئر يقال لها "الغرث" بقباء، وكانت لسعد بن خثيمة، وكان النبي صلي الله عليه وسلم يشرب منها، وعندما فرغوا من غسله جففوا جسده الطاهر، ثم كفّنوه في ثلاثة أثواب بيضاء يمنية وليس فيها قميص ولا عمامة. وُضع النبي صلي الله عليه وسلم في أكفانه، ثم حمل علي يد الصحابة، ووضع علي سريره، ثم دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومعهما نفرٌ من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، وقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وجاء وقت دفن النبي صلي الله عليه وسلم، وتساءلوا أين يدفن النبي؟ فقال البعض في البقيع مع الناس وقال آخرون عند المنبر، وقيل في موضع صلاته، وحسم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الموقف عندما قال: "إن عندي من هذا خبر، سيدفن حيث قبض"، أي في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها، ثم قال: "إني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ما قبض الله نبياً إلا دفن حيث قبض". فدفن النبي صلي الله عليه وسلم حيث كان فراشه، فرفع الفراش، وحفر له تحته، ودفنه أبو طلحة بن سهم وكان هو من يقوم بدفن أهل المدينة. ونجد أن تفاصيل وفاة النبي صلي الله عليه وسلم وتغسيله ودفنه وموضع قبره شديدة الوضوح وعليها شهود من الصحابة ومن أهل المدينة، وهو أمر له دلالته فهو خاتم الأنبياء ومتمم الرسالات السماوية، ولابد أن يكون كل ما يتعلق به شديد الوضوح ولا يحتمل اللبس أو التشكيك فيه وبيانه واضح للجميع، بينما يختلف الأمر لباقي الرسل والأنبياء الذين سبقوا الرسول صلي الله عليه وسلم، فقد كانت دعواتهم وما أرسلوا به تمهيداً لظهور محمد بن عبد الله، ولذلك نجد لكل نبي منهم عدة أضرحة ومشاهد منتشرة في كل بقاع الأرض ولا نجد لهم ذكراً في تفاصيل وفاتهم ودفنهم. ودائماً ما ترتبط بهم العديد من الروايات التي تسكنها الأساطير، فالمسيح عيسي بن مريم عليه السلام الذي رفع إلي السماء لا يوجد له موقع للدفن، وإن كان له مقام في سريناجار عاصمة إقليم كشمير، ويعتقدون هناك أن المسيح عليه السلام نجا من الصلب قبل ألفي عام، وقدم إلي كشمير للعيش فيها بقية حياته، وتعد الطائفة الأمريكية المعروفة باسم "الكنيسة العالمية" من أبرز من يؤيد فكرة نجاة المسيح من الصلب، وإن كانوا لا يؤيدون فكرة وفاته في كشمير ودفنه بها، ويرتبط مذهب القاديانية المنحرف عن الإسلام ومؤسسه غلام أحمد بقبر المسيح في كشمير، بعد أن زعم أنه باكتشافه لهذا القبر قد حلت فيه روح المسيح وقوته وأنه المهدي المنتظر فهو بروح المسيح وبوصفه المهدي يجدد أمر الدين ويكون ما يقوله هو الحق. وبينما يعتقد أهل نينوي في العراق أن نبي الله يونس عليه السلام مدفون عندهم وهناك مقام يحمل اسمه، تصل الأسطورة إلي ذروتها مع نبي الله يوسف الذي توفي بمصر، ودفن بها في موضع غير معلوم، وله مقام مقدس في نابلس بفلسطين في المدخل الشرقي للمدينة، بجانب تل بلاطة الأثري حسب الرواية اليهودية وهناك رواية أخري تقول إن قبر يوسف عليه السلام موجود في مدينة الخليل وجاء موقع قبره بناء علي رؤية أم خليفة عباسي وتم بناء قبر له في الخليل، وارتبطت قصة نقل رفاة سيدنا يوسف بقصة خروج نبي الله موسي من مصر مع بني إسرائيل والتي ذكرت في التوراة، ولكنها لا تخلو من مبالغات شديدة كما تم تأييدها في حديث نبوي قيل عنه إنه ضعيف، وإن كان الغرض الأهم من قصة نقل الرفات هو خلق حالة من القداسة مرتبطة ببني إسرائيل قديماً، وباليهود في العصور التي تلت خروجهم من مصر. وبدأت القصة حسب التوراة عندما انتوي موسي عليه السلام الخروج من مصر فأوحي له الله أن يحمل معه عظام يوسف إلي الأرض المقدسة، حسب وصيته قبل موته وفي رواية أخري أن سبب البحث عن عظام يوسف هو أنه عندما خرج موسي ببني إسرائيل ساد الظلام طريقهم مما جعلهم يضلون الطريق فسأل موسي عن السبب فقيل له إن يوسف أوصاهم ألا يخرجوا من مصر حتي يحملوا معهم عظامَه، فبحث عن قبره ولم يجده، فسأل وقال له شيخ عمره ثلاثمائة عام: يا نبي الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتي فذهب إليها موسي وسألها عن موضع قبر يوسف، فطلبت منه أن يدعو لها بأن يرد الله لها شبابها ويزيد في عمرها مثل الأيام التي عاشتها، فسألها موسي كم عشت فأجابته تسعمائة عام، فعاشت ألف وثمانمائة عام وفي قول آخر أن تكون معه في الجنة، وتبدو هنا حالة المبالغة الشديدة وعدم المنطقية في الرواية اليهودية، مما يؤكد عدم خروج جثمان يوسف من مصر. علي كل حال تزعم الرواية اليهودية أن المرأة أرشدت موسي لموقع قبر يوسف، الذي كان مدفوناً في وسط النيل في صندوق من المرمر، وسبب موقع دفنه أنه بعد موته دفن في جانب من النيل فنقص الجانب الآخر فنقلوه إليه فنقص الماء في الناحية التي نقل منها فاتفقوا علي دفنه في الوسط ليمر النيل عليه وتصل بركاته إلي جميع المصريين. ورغم ثبوت موقع وفاة نبي الله إبراهيم عليه السلام في قرية الخليل بفلسطين إلا أن موقع دفنه بالقرية غير معلوم، وأن القصة المتداولة والتي تحكي أن نبي الله إبراهيم عليه السلام أقام في منطقة الخليل التي سميت بعد ذلك باسمه في قرية تسمي "حبرون" حيث ابتاع قطعة أرض زراعية فيها مغارة تسمي "المكيفيلية"، وقيل إنه طلب أن يُدفن فيها بعد وفاته مع زوجته سارة وولده إسحاق عليه السلام وزوجته ونبي الله يعقوب عليه السلام وزوجته، ويلقي موقع دفن إبراهيم عليه السلام وتحديده معارضة شديدة من علماء المسلمين ومنهم "ابن تيمية" الذي قال إنه ومعه عدد من علماء المسلمين من بينهم الإمام مالك "ليس في الدنيا قبر نبي يعرف إلا قبر نبينا محمد صلي الله عليه وسلم"، فإن قبره منقول بالتواتر وكذلك قبر صاحبيه أبو بكر وعمر، وقال صلي الله عليه وسلم "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". وذكر "ابن سعد" في كتابه الطبقات الكبري: "لا نعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة قبور، قبر إسماعيل فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت (يقصد الكعبة)، وقبر هود فهو في كثيب من الرمل تحت جبل من جبال اليمن، عليه شجرة تبدو موضعه أشد الأرض حراً، وقبر نبينا محمد صلي الله عليه وسلم". ومع أن التأكيد الذي جاء في طبقات ابن سعد عن موقع دفن نبي الله هود يبدو حاسماً إلا أن للنبي هود عدة مواقع للدفن واحد منها يقع في القرافة الكبري بمصر علي هيئة تل صغير مكتوب عليه "النبي هود" وفي موقع آخر قيل إنه دفن في مسجد موجود بمحافظة حضرموت في اليمن ووجد حوله عدد كبير من الآثار القديمة التي تم نسبها إلي قوم عاد الذي كان قد أرسل إليهم وكان موقعهم في الأحقاف التي تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية، وتقع تحديداً الآن ما بين دولتي اليمن وعمان ، وهناك اعتقاد آخر يقول إن موقع قبر هود عليه السلام يقع بالقرب من بئر زمزم وفي قول أخر إنه داخل مسجد في دمشق وأنه عليه نقش يقول "هذا هو قبر هود"، وقيل أيضاً إن له قبراً في مدينة النجف بجوار قبور أنبياء آخرين هم نوح وصالح وآدم الذين لهم قبور أخري تنسب إليهم في مواقع أخري من العالم ، وله أيضاً قرية تسمي باسمه بها ضريح في مدينة جرش التي تقع شمال الأردن وبها طريق ضيق ومتعرج له ارتفاع حاد وفي نهاية ذلك الطريق يوجد قبر ينسب للنبي هود، بينما يقول أهل مدينة الإسكندرية إن قبر النبي دانيال عندهم في المسجد الشهير الذي يحمل اسم النبي ذاته. وفي غمار بحث البشرية عن مقدسات يتوجهون إليها ادعي كثيرون أن الأنبياء والرسل دفنوا في أراضيهم حتي أن للنبي الواحد عدة أضرحة تنسب إليهم فنبي الله آدم له ضريح في الهند وفي فلسطين ونوح عليه السلام قيل إنه دفن في مسجد بالكوفة وفي النجف وفي الجبل الأحمر وفي المسجد الحرام.