ازمات عدة تعصف بالمنظومة الزراعية في مصر مع تآكل مساحة الأراضي الزراعية بفعل التعديات المستمرة عليها وما يواجه الموارد المائية من تحديات كبيرة، ورغم سعي الحكومة لرتق الفجوة الغذائية المُتنامية عن طريق التوسع في مجال الاستصلاح الزراعي علي المدي الطويل من خلال مشروع المليون فدان، إلا أن أحداً من المسؤولين لم ينتبه إلي ضرورة إحياء مشروعات الزراعة المحمية، التي تُمثل طوق النجاة الحقيقي للزراعة في مصر، لما لها من جدوي اقتصادية هائلة تتمثل في مُضاعفة الإنتاج من المحاصيل علي المدي القريب، مع توفير كميات كبيرة من المياة التي تُهدر باتباع نظم الري والزراعة التقليدية. وهي المشروعات التي بدأتها وزارة الزراعة أواخر الثمانينيات، حتي تدهورت بشكلٍ كبير في ظل ما تشهده منظومة الزراعة المحمية من أزمات وما تتعرض له من إهمال. خبراء: الزراعة المحمية طوق النجاة للاقتصاد الإهمال يقضي علي 200 صوبة بجزيرة الذهب وتعتبر الزراعة المحمية أحد الفروع المتخصصة من فروع الإنتاج الزراعي التي تتفرد بخواص عدة تُميزها عن الزراعة المكشوفة. حيث تتم العملية الزراعية خلالها عن طريق التوسع الرأسي داخل "الصوب" المُغطاة، بغرض حماية المحاصيل من الأحوال الجوية غير الملائمة وتهيئة الظروف المناسبة لنموها، ما يتيح إمكانية إنتاجها في غير موسمها. ورغم أهميتها التي تتعاظم مع ارتفاع درجات الحرارة والظروف المناخية التي تهدد زراعة المحاصيل التقليدية في مصر، تُعد المشروعات الحكومية للصوب الزراعية ثروةً مهدرة لا يتم استغلالها، وربما وجدنا المواقع التابعة لإدارة الزراعة المحمية بمركز البحوث الزراعية أكثر نماذج الإهمال فداحةً، وهي الصوب التي أُنفق علي إقامتها ملايين الجنيهات، حيث أُنشأت معظمها ضمن مشروعات تم تمويلها من خلال عدة مِنح دولية قُدمت لوزارة الزراعة من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، غير الصوب التي أُقيمت بتمويل ياباني ضمن مشروع شباب الخريجين. أحد هذه المواقع يمتد علي مساحة 20 فداناً بمنطقة الهرم بمحافظة الجيزة. بنظرةٍ عابرة تستطيع أن تُدرك حجم الإهمال الذي حوّل الموقع إلي ما يُشبه "الخرابة". علي مدد الشوف تتراص هياكل معدنية عارية لصوبٍ زراعية مُتهالكة، تظهر جلياً من خلالها التربة مُجرّفة، بينما تتناثر في أرجاء المكان معداتٌ زراعية بالية. المشهد الذي نراه يُفسره لنا أحد العاملين في الموقع -رفض ذكر اسمه-، كاشفاً عن حجم الإهمال الذي أصاب إدارة الزراعة المحمية، الذي تسبب في تراجع إنتاجية الصوب من المحاصيل بصورةٍ هائلة. مُتابعاً: كنا ننتج آلاف الأطنان من محاصيل الخيار والفلفل والطماطم، فالفدان الواحد نحصد منه ما يقرب من خمسة أطنان، قبل أن يتدهور الموقع لعدم إجراء التجديدات المطلوبة للبلاستيك الذي يُستخدم في تغطية الصوب، كما أن المعدات التي نعمل بها خاصة آلات رش المبيدات وأدوات حرث التربة قديمة ومتهالكة وتتعرض دائماً للأعطال، ما يعوقنا في كثير من الأحيان عن زراعة المساحات المُخصصة للصوب. غير ما نعانيه من تأخر وصول البذور والتقاوي، وللأسف تلك التي تصل غالباً ما تكون رديئة وغير صالحة بشكلٍ كبير لهذا النوع من الزراعات. بينما يبرر المهندس إبراهيم الدسوقي مدير إدارة الزراعة المحمية بمركز البحوث الزراعية الحالة، التي وصلت إليها المواقع التابعة للإدارة بأزمة نقص التمويل التي تُعاني منه كافة قطاعات وزارة الزراعة، موضحاً أن إدارة الزراعة المحمية ليس لها أي مخصصات مالية من جانب الوزارة، بينما نُحاول تغطية نفقاتها من خلال الإيراد السنوي لمواقع الزراعة المحمية التي يبلغ عددها أحد عشر موقعاً تتوزع في مناطق الجيزة، وجزيرة الذهب، ومدينة طوخ بمحافظة القليوبية، ومركز سخا بمحافظة كفر الشيخ وغيرها من المواقع. مُضيفاً: نمط الزراعات المحمية بدأ استخدامه في مصر عام 1985 بإقامة اللجنة العليا للزراعة المحمية التي كانت ضمن القطاعات الرئيسية بالوزارة حتي أُلحقت بمركز البحوث الزراعية بعد ذلك. يتابع: إلا أن المشكلة الرئيسية التي نُعاني منها تتمثل في ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج وثبات سعر الخضراوات التي ننتجها، فالزراعة المحمية تعد من الطُرق المُكلّفة للإنتاج، حيث تضاعف سعر طن البلاستيك المُستخدم في تغطية الصوب والتحكم بدرجة حرارتها من خمسة آلاف جنيه حتي وصل إلي 25 ألف جنيه، وكذا أسعار الأسمدة والأنواع الخاصة التي نحتاجها من البذور غير محدودة النمو التي ارتفعت من 30 إلي 130 قرشاً لبذرة محصول الخيار علي سبيل المثال. ورغم أننا أقمنا مصنعاً لتصنيع الصوب الزراعية إلا أن الأنواع المحلية من البلاستيك الذي يتم توريده إلينا غالباً ما تكون رديئة وغير مُطابقة للمواصفات، هذه الأنواع سريعة التلف ما يؤثر سلباً علي حجم الإنتاج، وللأسف لا يمكننا استبدالها بالأنواع المستوردة عالية الجودة ويحكمنا في ذلك قانون المناقصات والمزايدات رقم 89 لسنة 1998. من جانبه يري الدكتور محمد عشري أستاذ الزراعة المحمية بمعهد بحوث البساتين أن منظومة الزراعة المحمية بوزارة الزراعة تُدار بعشوائية ودون أساس علمي سليم، موضحاً أن هذا النمط من الزراعة بمفهومه الأوسع يعني التحكم في جميع العوامل البيئية التي تُحيط بالمحصول، وتعديلها بما يتلاءم مع الأنزيمات المسؤولة عن نمو النبات، والتي تختلف احتياجاتها من الحرارة والضوء من نبات إلي آخر. كما تحد الصوب التي تُغطي المحاصيل الزراعية من الأخطار التي يتعرض لها النبات، وتحميه من الآفات الحشرية الموجودة في خارج هذه الصوب، وذلك من خلال نوع معين من الشبك يُستخدم لهذا الغرض. غير أن هذا النوع من الزراعة المكثفة يتيح إمكانية التوسع رأسياً في إنتاج المحاصيل، ما يوفر مساحات هائلة تُهدر في الزراعة التقليدية، يترتب علي ذلك مُضاعفة الإنتاجية وتحسين جودة الثمار وتخفيض أسعارها لزيادة المعروض منها. ويُمكن تحقيق ذلك في العديد من أصناف الخضراوات كالخيار والباذنجان والفاصوليا والفلفل والكانتالوب والبطيخ، ومن الفواكه يُمكن زراعة الفراولة والعنب وأشجار المانجا المُتقزّمة وغيرها من المحاصيل. مُتابعاً: إلا أن ذلك للأسف لا يتحقق في الصوب التابعة للقطاع العام، كونها غير مُجهّزة بشكلٍ كامل ولم يدخل أي تطوير تكنولوجي علي هذه الصوب منذ إقامتها في الثمانينيات، ولم يحدث أي تجديد لتصاميمها وطُرق إدارتها، فحتي الآن ما زلنا نعتمد علي الطريقة البدائية في إدارة الصوب الزراعية التي تقوم علي العنصر البشري وهذه كارثة، لأن الخطأ في تقدير احتياجات النبات من الحرارة يُمكن أن يُدمّر المحصول بالكامل، وللأسف نجد أن ارتفاع نسبة الرطوبة وعدم وجود تهوية كافية داخل بعض الصوب، يؤدي إلي زيادة الأمراض الفطرية التي تُصيب النبات.. ويكشف الدكتور عشري أن عشوائية إدارة مواقع الصوب التابعة لوزارة الزراعة، أدت إلي تدمير موقع جزيرة الذهب الذي كان يحوي 200 صوبة تمتد علي آلاف الأفدنة. متابعاً: مسؤولو هذا الموقع خالفوا تعليمات الإنتاج الزراعي، التي تقضي بعدم استخدام السماد المستخلص من روث البهائم وتنويع مصادر السماد العضوي الأخري، لما يسببه من بعض الآفات التي تنتشر في التربة وتنتقل بدورها إلي النبات، وللأسف أدت هذه الكارثة إلي تلوث التربة بالكامل، ولم تفلح محاولات التعقيم التي أُجريت عليها. رغم ذلك لم يتحرك المسؤولون أيضاً لإنقاذ الموقع باستبدال التربة بوسائط أخري للزراعة المائية داخل الصوب الموجودة، أو بالاعتماد علي وسائط أخري من المخلفات الزراعية غير المُكلّفة مثل قش الرز. ويؤكد الدكتور جمال محمد صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة عين شمس ضرورة تعميم نمط الزراعة المحمية والتوسع في إقامة الصوب، كونه النمط الزراعي الأمثل للدول الفقيرة مائياً.