بوساطة مصرية بدأت حركة حماس مفاوضات مع إسرائيل بهدف التوصل لاتفاق هدنة جديد ينهي حالة التصعيد المتبادل بينهما في أعقاب خطف وقتل ثلاثة شباب إسرائيليين بالضفة الغربية في الثاني عشر من يونيو الماضي، ثم ما أتبعه ذلك من خطف وقتل الشاب الفلسطيني محمد أبو خضير الذي أثبت الطب الشرعي أن خاطفيه أجبروه علي ابتلاع كمية من البنزين قبل أن يشعلوا النار فيه حياً. ومن المفترض أن ينص الاتفاق علي أن توقف حماس إطلاق الصواريخ من قطاع غزة علي الأراضي الإسرائيلية مقابل أن توقف تل أبيب غاراتها علي القطاع، بحسب ما صرح به مصدر حمساوي مسئول رفض أن يكشف عن هويته لصحيفة «لوموند» الفرنسية اليومية، علماً بأن اليومين الماضيين شهدا توقف إرسال تعزيزات عسكرية من قبل الدول العبرية علي الحدود مع غزة كرسالة مفادها «إننا لا ننوي التصعيد لما هو أبعد» بحسب مصدر إسرائيلي رفض أيضاً ذكر اسمه ل«لوموند». تلك الدعاوي المتبادلة بعدم التصعيد تتناقض مع خطاب (فلنذهب إلي الحرب وهناك سننتقم) الذي تبناه الجانبان، فمنذ الثاني عشر من يونيو الماضي صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو غير مرة أنه سيشن حرباً شاملة علي حماس التي اعتبرها مسئولة عن مقتل الشبان الثلاثة (إيال يفراش ونافتالي فرنكل وجلعاد شائير)، فيما ردت الحركة من جانبها بأنها تتعهد بأن يدفع قادة الاحتلال ثمن جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني، بعد العثور علي جثة الشاب الفلسطيني محمد أبوخضير في الثاني من يوليو الجاري بالقدس الشرقية، ومنذ بداية هذه الأزمة رأي المراقبون للمشهد أن الحرب بين إسرائيل وحماس لن تكون إلا كلامية، وهو ما أشار إليه الكاتب الإسرائيلي زيفي باريل في النسخة الإنجليزية من صحيفة «هاآرتس» بقوله: نحن نعيش واقعاً مؤلماً يتمركز فيه كل طرف في خانة المعادي للآخر بينما هما يتصرفان كشركاء. عقب كل اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر، الذي يعقد علي الصعيد الأمني فقط بشكل يومي منذ الثلاثين من يونيو الماضي، يظهر نتنياهو بتصريحات معتدلة، إذ يرفض الاستجابة لمطالب يمينيين متشددين في حكومته، مثل وزير الصناعة نافتالي بينيت الذي لا يتوقف عن المطالبة بعملية برية واسعة النطاق في قطاع غزة بهدف اجتثاث حماس وتدمير بنيتها التحتية، وعلق «موشيه يعلون» وزير دفاع تل أبيب علي مطالب المتشددين بالقول: إنه وقت يجب أن نتصرف فيه بعقولنا وليس بشجاعتنا.. وبدت تصريحات الرجل وكأنها رغبة في عدم تكرار ما حدث في ديسمبر 2008 حيث دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً نتيجة عملية «الرصاص المصبوب» التي شنتها علي القطاع وكبدتها أمطاراً من الصواريخ فضلاً عن تعزيز موقف حماس في القطاع، كما لا تريد تل أبيب أن تفقد التعاطف الدولي الذي تحظي به بمغامرة طائشة في غياهب القطاع. في السياق نفسه يستبعد المراقبون اندلاع انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية،علي الأقل في الوقت الراهن، لعدة أسباب أبرزها: أن قوات السلطة الفلسطينية تقف بمثابة حاجز صد بين الشباب الغاضب وقوات الاحتلال، واستمرار حالة الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني بشكل لا يمكن معه تحقيق وحدة وطنية، هذا فضلاً عن أن قيادات الحركتين فقدوا الكثير من شعبيتهم في الشارع ولا توجد مؤشرات علي وجود صف ثان يمكن أن تنتقل له القيادة. إسرائيل ليس لها مصلحة كذلك في أن تختفي حماس من قطاع غزة، إذ إنها تبدو الكيان الوحيد الذي يحترف اتفاقيات الهدنة معها وكبح جماح حركات أخري مندفعة نحو التصعيد كحركة الجهاد الإسلامي، وخسارة حماس للقطاع تعني تركه لآخرين ربما لن تتمكن تل أبيب من التفاوض معهم، وفي الأسابيع القليلة الماضية لم تجازف إسرائيل بعمليات ضد قيادات حمساوية واكتفت بعملية محدودة في الضفة الغربية أوقفت خلالها كوادر حمساوية من الصف الثاني تخضع بالفعل لرقابة السلطة الفلسطينية منذ عام 2007 كما اقتصرت ضرباتها الجوية علي القطاع في الثلاثين من يونيو علي قواعد إطلاق صواريخ فقط. ويوضح نافتالي بينيت أن هدف إسرائيل ليس ردع الفلسطينيين بقدر ما هو تهدئة الإسرائيليين، كما يبدو أن لنتنياهو هدفا آخر يتمثل في نسف اتفاق المصالحة بين فتح وحماس الذي وقعه الرئيس أبو مازن في الثالث والعشرين من أبريل الماضي، حيث دبت الخلافات بين السلطة الفلسطينية وحماس بعد خطف الشباب الإسرائيليين الثلاثة ومما عمق الانقسام هو استمرار التعاون الأمني بين السلطة وتل أبيب، وهو ما أعطي لنتنياهو فرصة لم يكن يحلم بها ليمارس ضغوطاً كبيرة علي الرئيس أبو مازن لنقض اتفاق المصالحة. زافييه جينار أستاذ العلوم السياسية بجامعة السوربون والمختص بدراسات الشرق الأوسط، يري أن «حماس في مأزق حقيقي، فهي في أضعف حالاتها سياسياً وعسكرياً منذ عزل محمد مرسي وجماعة الإخوان من حكم مصر بثورة الثلاثين من يونيو 2013 وأضحت علاقة الحركة بكل من مصر والسعودية والإمارات ليست علي ما يرام، إضافة إلي أنها فقدت الأموال التي كانت تحصل عليها من إيران علي خلفية تأييدها التمرد المسلح في سوريا ضد نظام حكم الرئيس بشار الأسد، مما أضعف الاقتصاد الغزاوي بشكل غير مسبوق وجعل حماس هدفاً لانتقادات لاذعة من رجل الشارع الذي لم يكن يجرؤ حتي أشهر قليلة مضت علي المجاهرة بانتقاد حماس. لوموند الفرنسية تؤكد أن حماس بذلت علي مدار الأشهر الماضية الغالي والنفيس لتحسين علاقتها بمصر وتحاول قدر المستطاع محو صورتها كمنظمة إرهابية أو علي الأقل تساعد عليه، وفي سبيل ذلك قبلت حماس باتفاق المصالحة مع فتح الذي صيغت بنوده بمعرفة القاهرة والذي تنقل بمقتضاه الحركة مسئولية إدارة القطاع للسلطة الفلسطينية بما في ذلك دفع رواتب الموظفين علي أن تبقي للحركة السيطرة الأمنية علي القطاع. المكتب السياسي لحركة حماس يناور منذ الثاني عشر من يونيو بتمجيد المقاومة تارة، من أجل الحفاظ علي شعبية في الشارع، والتلميح للدولة العبرية بالرغبة في التهدئة تارة أخري، إذ صرح خالد مشعل رئيس المكتب المقيم في قطر بأنه لا يملك أي معلومات عن عملية خطف الشبان الإسرائيليين ولكنه لم يفوت الفرصة للثناء علي «عمل عظيم من أعمال المقاومة» وهو التصريح الذي أتبعه بجولة إقليمية بعدة دول في المنطقة فضلاً عن مقابلة بعض المسئولين الغربيين من أجل مزيد من الضغط علي إسرائيل لقبول الهدنة، فهو يعلم أن القطاع، وربما الدولة العبرية أيضاً، لا يمكنهما تحمل عواقب حرب ثالثة بعد حربي 2008 و 2012.