الرابعة عصرا.. أوان الهدنة النهارية.. جبروت أغسطس.. قيظ القيلولة اللافح.. حفيف التكييف يبث أنفاسه في رتابة تنهيدة عاشق أنهكه الشوق.. يحض علي النعاس.. عبر النوافذ صليل تنظيف الأواني بعد الغداء المصحوب بأصداء الضحكات المجلجلة تشي ببهجة العصر.. صرخات صخب لهف الصغار تخفت إلا قليلا.. الرابعة عصرا.. صوت بائع آيس كريم جروبي بعربته الصغيرة الصفراء يطوف الشوارع والكل في الشرفات المرصعة بالريحان والياسمين والفل ينتظر النداء المألوف ولعقة من الكؤوس الكرتونية ذات التقليمة الموحية باللذة المضمونة تنعش الحواس.. وبينما يغفو الرجال أبي وأخي تنطق أمي الجملة السحرية »حننزل البلد».. أي وسط البلد قلب القاهرة وروحها.. شوارع وميادين.. بنايات ومقاهٍ ..مسارح.. محلات »دور السينما» نوادي ومطاعم أشعلت مخيلة كل حالم بالنجاح.. الثروة والشهرة فكان ياما كان ما يسمي بالحلم المصري لا الحلم الأمريكي.. فالمصاري يعني مصر والمجد هنا في مصر.. درة الوجود هكذا كنا وهكذا كانت.. أما اليوم فوسط البلد نجم هوي ومجد وهن. النوستالچيا الموجعة تحض علي ترميم الزمن، ألوذ ببعض الذكريات المحتفظة بطزاجتها بالرغم من أعوامي الشحيحة ألا أني أكتنز ملامح تلك السفرة الخلابة في جنة وسط البلد.. هانو، سيكوريل، صيدناوي، صالون ڤير، جراند دوموازيل، بونترومولي، ممر بهلر حيث البواكي تحاكي باريس، محلات جاد الله ومدام جبريال، لاباس، الأمريكين، المكتبات، هاشيت، الكتاب الفرنسي، الأنجلو وفيما بعد عاشت مصر حقبة تحول المكتبات إلي محلات للأحذية!! وفيما بعد أيضا محلات الموبايل!! »فالمداس أو الحذاء والرغي» أهم وأبقي من الثقافة والتنوير هكذا أصبحنا، وأعود إلي وسط البلد.. القاهرة الخديوية أو جوهرة الشرق.. تجد نادي السيارات في شارع قصر النيل حيث النخبة المصرية في ذروة الرقي والشياكة، كان المكان يضوي بالقامات الفكرية العظيمة.. الشاعر صالح جودت، يوسف السباعي، ثروت أباظة، عبدالرحمن الشرقاوي.. فتحي غانم، أحمد رجب، صلاح طاهر، د. يوسف إدريس، علي حمدي الجمال والقائمة شاهقة والأمسيات الصادحة بتجليات الفكر لا تحصي.. وأذكر في طفولتي (الميتر) عيسي النوبي كنت أطلب منه (البيش ميلبا) هو آيس كريم مع الخوخ والكريم شانتيه والطريف أن من ابتدعه شيف فرنسي وقع في غرام مطربة اسمها ميلبا فصنعه لها.. وكان نادي السيارات آنذاك يتقنه.. في قلب طفولتي ومراهقتي لاحظت قامات مصر المهيبة من رجال الفكر، الثقافة والإعلام، علي سبيل المثال يوسف السباعي، ثروت أباظة، إحسان عبدالقدوس كانت ملابسهم غاية في البساطة والذوق وكان هناك ما عرف ببدل الأهرام وكانت الكرافتة فقط (سينييه) مثلا چاك فات، كريستيان ديور، بالمان، لانڤان وأقمشة الشتاء من الصوف الإنجليزي، لم يكن رجال النخبة عرفوا أو أصيبوا بذائقة البدل السينييه بأسعارها الباهظة ومظاهر الخواء الفكري والوطني ولم تكن تعرف مصر بعد ظاهرة بيع الأوطان من أجل بدلة إيطالية فاخرة، أو ساعة، كانت ربطة العنق وربما الحذاء الإيطالي والولاعة »الدوبون» أقصي شيء.. وأعتقد أن الرجل المبالغ في شو استعراض ملابس 5 نجوم هو ينتحل صفات وسمات تحتكرها الأنثي فالمغالاة في التألق اللوكس للرجال ظواهر مستحدثة، فالذوق والشياكة لا تقتضي هذه المغالاة والمخاتلة التي لا تليق بالرجولة، فرجولة الأيام الخوالي كانت السلوك، الرقي والثراء الداخلي، فالرفاهية تختزل في زجاجة أودي كولون فحسب ديور، كارون، جيرلان أو أولد سبايس.. كنت ألمحها بين مقتنيات أبي في طفولتي الأولي. هانو شارع الأنتكخانة وبمثابة فردوس الطفولة المفقود، تأسست محلات هانو 1882 علي يد الخواجة هانو اليهودي الفرنسي كمحل للعب الأطفال في الموسكي وسرعان ما ضم إليه قسما كبيرا للملبوسات والأقمشة وفيما بعد تحول إلي جنة تحتوي علي كل ما يرنو إليه النساء والرجال، واسترجع المصعد الخشبي العتيق بواجهته الزجاجية، أتجول مع أمي، أكور كفي الصغير داخل يدها.. أرغب في التلاشي، الاختباء من هذا الدوار المبهر، أشتهي كل شيء.. أشياء الكبار والصغار في آن.. تيجان الزفاف المرصعة، لعب الأطفال، الدمي، هاهو ثوب وردي للفتنة أشاهد نجمات هذا الزمان يتجملن به في السينما والتليفزيون.. هاهي أمي تتحدث مع النجمة ماجدة وزوجها إيهاب نافع، أتابع الحوار بدهشة وأسأل أمي بكل اللاوعي الطفولي، كيف استطاعت الخروج من الشاشة!! فكان المشهد أشبه بمحاكاة لخروج الجني من مصباح علاء الدين.. وردا علي النشوة العارمة التي تغمرني في خضم تجمع كل ألوان الكون في (ريون) الأقمشة الساتان، الدانتيل، البروكار، الجيبور، كريب چورچيت، الموسلين، فها هو »البرتقالي» بلون المغيب عندما تتخضب السماء، الزهري المحمل بإرهاصات المساء الفضي الأشهب ينذر، بالشروق، أتخيل تلك الأقمشة بنقوشها المزهرة تتحول إلي أثواب هفهافة تحيكها الأسماء الشهيرة لهذا الزمان، فتصبح علي أجساد الفاتنات والمليحات من النساء إلي فتنة للناظرين، وأرصد البائعات هن من بقايا بقايا الجاليات الأجنبية، بالفرنسية يتحدثن، فتقول لي أمي إن كل هذا البهاء مجرد بقايا لما كان، أما العملاء لدي هانو فلديهم حسابات مفتوحة، وأذكر المدير الأستاذ إسماعيل كان التجسيد الصادق لدماثة وخلق الشخصية المصرية وكانت ابنته نادية أيضا في مدرسة ليسيه الحرية باب اللوق.. أما قمصان النوم والروب دي شمبر يجب أن تزينه (البرودري) أي التطريز باليد علي شكل ورود وطيور كذلك الملاءات موشاه بالخيوط الحريرية الملونة وفي الإسكندرية كان هناك أيضا فروع لهانو وفيما بعد حضر هادم اللذات ومفرق النجاحات.. التأميم والتخريب فالإفلاس وانتهت أسطورة تلك المحلات التي فاقت ألق أشهر المحلات الباريسية مثل جاليري لافايت وفي رواية »ڤيوليت والبكباشي» لعمرو كمال حمودة يبرز ببراعة مدهشة التوابع المأساوية للتمصير، التأميم لتلك الثروة الوطنية فكانت كل سلسلة محلات وسط البلد، شملا، جاتينيو، عدس، سيكوريل ثم يأتي صيدناوي أو سمعان صيدناوي تقع قريته »صيدنايا» شمال شرق العاصمة السورية دمشق هو من عائلة مسيحية كاثوليكية ضاقت به سبل العيش الرغد وعلي ظهر الباخرة كان سمعان صيدناوي غارقا في أحلام التحقق والنجاح التي تكفلها أم الحضارات مصر.. وعرف الشاب النابه أن الإرادة القوية هي السلاح الفعال في معركة الحياة.. كانت البداية مع محل صغير للخرداوات في منطقة الحمزاوي.. وصل شقيقه سليم من دمشق وكان عازما علي العمل في المجال الذي يتقنه حياكة الملابس.. المنشأ إذن في الحمزاوي ثم خطوة الشقيقين الثانية الانتقال إلي حي الموسكي ثم اشتري الشقيقان منزلا قديما في ميدان الخازندار وهدماه ثم شيدا علي أرضه دكانا كبيرا سنة 1896 وهو ما يمثل نقطة الانطلاق، وهكذا بداية عصامية تابعها الثراء الفاحش، السمعة الطيبة ورغم حياة القصور إلا أنه اشتهر بالزهد في المظاهر وكان مولعا بفعل الخير والعمل الجاد المثمر ومخاصمة البذخ هذا ما أكده الكاتب والباحث مصطفي بيومي في السيرة التي سطرها عن سمعان صيدناوي.. وخلال النصف الثاني من القرن تزايدت أعداد المهاجرين الشوام إلي مصر ووصل عددهم عام 1907 إلي 34 ألف مهاجر وفي 1920 كانوا 50 ألف مهاجر أغلبهم من المسيحيين وبرعوا في تجارة وصناعة المنسوجات، البن والصابون بل وفي مجال الفن والصحافة.. وهاهو التاريخ يعيد نفسه، هي حكاية قديمة جديدة فاليوم مصر عامرة بالأشقاء من أهل سوريا، أما المعلومة المدهشة التي تم تداولها في فرنسا أن تنوع أصناف الحلوي في سوريا أتقنه العديد بل مئات الآلاف من أهلها الذين نجحوا في العمل بأي مكان ببراعتهم الشهيرة في هذا المجال.. ومن العائلات ذات الأصول الشامية في الأزمنة المنصرمة.. باسيلي، خياط، ظريفة، زنانيري، شكور، شلهوب، الصباغ، لوقا، قنواتي.. ثم تجد حبيب سكاكيني الذي توسع في شراء الأراضي الزراعية وارتبط بعلاقة وثيقة مع الخديو إسماعيل والسلطان عبدالحميد ووصلت مكانته في المجتمع المصري إلي الدرجة التي أطلق فيها اسمه علي الحي الذي سكن فيه قصرا من روائع المعمار.. حي السكاكيني.. أما عائلة زنانيري المسيحية الكاثوليكية والتي اشتهرت أيضا حتي أطلق اسمها علي محكمة زنانيري وشارع زنانيري وسوقه وللاسم مرجعية طريفة فزنانيري أي الزنار أو الحزام الذي توضع بداخله الدنانير.. وفي عالم الصحافة كان سليم وبشارة تكلا أسسا الأهرام سنة 1875، والهلال لجرجي زيدان سنة 1892، والمحروسة لسليم نقاش 1880، والزهور لأنطون الجميل 1910 والمقتطف ليعقوب صروف 1885 وفي المسرح، الطرب والسينما وعمار يامصر ولقد ثمّن طلعت باشا حرب هذا الدور العظيم للأجانب الذين تمصروا وشيدوا نهضة اقتصادية رائعة، أما الملفت فإن كل هؤلاء وأيضا في الغرب تكون البداية بسيطة، متواضعة ثم تكبر وتتعملق وتحافظ علي المستوي، أما هنا فالعكس فالبداية ضخمة ثم تتقزم.. وفي النهاية دوام الحال من المحال وكل شيء ممكن: يقول الله تعالي.. (كل يوم هو في شأن).. صدق الله العظيم.