إن الحديث عن جمال الفن يقودنا إلى التأكيد على أنه لا يعدو أن يكون إلا تلاقيًا بين الروح والجسد، وتوازنًا بين كل المتناقضات والمتشابهات، فهو فيض من التناسب والتناسق والتآلف والانسجام. إن الوضوح فى الفن يكرس معنى الوجود،أما الغموض فيزيد الفن عطاء فهو قيمة تضاهى لذة الاشتياق واللقاء.لم يكن الجمال :»يوم تَفتَح حِس الفيلسوف للملاحظة وقلبه للشوق» ! ولكن يوم خلق الإنسان وتفتح قلبه للوجود. ومهما تعددت الاتجاهات الفلسفية،وتباينت بين المثالية والواقعية، فإنها جميعا تقف على أعتاب البناء الاستاطيقى تدرس تأثيره فى النفوس،و مشكلاته التى يخلقها الإنتاج والتأمل . إن ما ذهب إليه أفلاطون ( 348 ق. م. ) من أن الجمال الحقيقى مطلق مثالى فى الأعالى يسمو فوق الأشياء الحسية الجميلة،و أن ما نجده فى الأشياء من جمال ليس إلا تجليًّا لذلك العلوى المطلق،هو ما يفسر تفاوت الفن فى الحسن والتأثير . فالرؤية الجمالية تبحث عن سبل حضور كمالات الأشياء، و مدى تأثيرها فى بعث التناغم بين المخيلة والفهم والحس والانفعال والعقل . «ولا يعتمد إدراك الجمال على التفاوت بين المطلق والحسى فقط ،وإنما على الخبرة الجمالية ورهافة الإحساس أيضا، لهذا تتباين الأذواق وتتفاوت، لكن التباين والتفاوت يبقى نسبيًا لأن الأذواق تشترك فى ملامح أولية وصفات أساسية تهب للأشياء جمالها،وتعجب من روعة عطائها .» فى مقولة للدكتورعبد الرحيم الهبيل . ولنتوقف أمام التغنى بالفن وجماله ونتذكر صوت ولحن الموسيقار عبدالوهاب لهذه الكلمات الواصفة لروعة الفن والفنانين :»الدنيا ليل والنجوم طالعة تنوَّرها/نجوم تغير النجوم من حسن منظرها/ياللى بدعتوا الفنون وفى إيدكوا أسرارها /دنيا الفنون دى خميله وانتوا أزهارها/والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها !» هكذا كانت أغنيات الزمن الجميل؛ لإيمان أهل هذا الزمان بأن الفنون ليست ترفًا وإنما هى أحد المكونات الرئيسة لجوهر الإنسان . ولأهمية الفنون التى تُعد أحد مقومات الحضارة أولت الدولة لها كل رعاية وعناية وتشجيع؛ فأنشأت العديد من المعاهد العليا تحت مظلة أكاديمية الفنون لتكون بحق قلعة للفنون فى شتى مجالات الإبداع الإنسانى الخلاَّق؛ الذى يسمو بالنفس البشرية إلى مصاف الملائكة بكل الصفاء والنقاء والحُب للحياة؛ فظهرت إلى الوجود ماتزهو به مصرنا المحروسة بين الدول العربية والعالمية.ولم تألُ الأكاديمية جهدًا فى التوسع للمزيد من الاستفادة من أجيال المبدعين المخضرمين فى صنع أجيال رائعة من المبدعين الجدد . الذين انتشروا فى الساحة المصرية والعربية والعالمية؛ ممن تسلحوا بالعلم الأكاديمى فى رحاب هذه الأكاديمية العريقة.ولمعرفة الأكاديمية بدورها المهم المنوطة به فى العناية بالفن والفنانين اتجهت مؤخرًا إلى تكريم الرواد منهم بمنحه الدكتوراه الفخرية مثلما ذكرت فى مقالى السابق عن تكريم الفنانة «شادية» فقد قامت مؤخرًا أ.د./أحلام يونس بمنح الدكتوراه الفخرية من الأكاديمية بموافقة مجلسها .وتم تكريم الفنانتين القديرتين «مديحة يسري»و»نادية لطفي» فى احتفال مؤثر من فوق كرسيهما المتحركين فى المشفى الذى يتلقيان فيه العلاج والرعاية الصحية اللازمة وقد اعتلت الفرحة وجوههما فى وسط جمع من الفنانين المحبين لهما ووسط أجواء من الفرحة كانا فى أمس الحاجة إليها فى ظل ظروف صحية متأخرة بفعل التقدم فى العمر . فما أجملها من لفتة جميلة توجت مشوار هاتين الفنانتين المحبوبتين الحافل بالروائع التى منحتنا السعادة والوقت الجميل والقيم النبيلة، ولست فى حاجة إلى التذكير بأعمال كل منهما فمن منا لايتذكرها ولم يعايشها فهى خالدة وراسخة فى الوجدان حتى الآن ومازالت تبث على القنوات بشكل يومى .وهذا التوجه الذى رسخته الاكاديمية يجيب بدوره عن سؤال ملح تردد كثيرًا فى الأذهان :هل يكفى أن يحظى الروَّاد فى بلادنا بالتكريم الشعبى وتقدير الجماهير لكل جهودهم الريادية فى كافة المجالات دونما أى إلتفات من الدولة ؟وهم من صنعوا لحظات السعادة والفرح لنا ؛ وكتبوا صفحات الفخار بالعرق والدم ما يعد الآن مرجعًا وثائقيًا يسير على نهجه كل من يطمح إلى الخلود بين سطور سجلات الوطن ، فهؤلاء الرواد قضوا حياتهم دون أن يحصلوا على التكريم الرسمى الذى ينتظره كل مبدع حقيقى ليشعر بلمسة الوفاء الصادقة تجاه شخصه وإبداعه وبأن جهوده لم تذهب سدى ، ليدرك أنه لم يعش عمره يحرث فى البحر. فما نراه هذه الأيام من اعتلاء منصات التتويج والتكريم لكثير ممن لم يتركوا بصمة واضحة متفردة فى المجالات التى كُرموا من أجلها ، ونجد بكل الأسف أن أحضان صفحات الجرائد القومية واللاقومية تُفتح لهم على مصراعيها بالمانشيتات العريضة وبكل ألوان الطيف الإعلامى ، ونجد فى الوقت نفسه تجاهلاً عظيمًا وإنحسارًا لعمالقة الرواد عن الأضواء فى كافة الفنون والعلوم والآداب والموسيقا وغيرها؛ ربما فى غفلة منهم وعدم تداركهم أن هذا النسيان يؤدى بالضرورة إلى تصدير الإحباطات لكل من أسهم وشارك بعقله وفنه ليسمو بعطائه المائز ناشدًا الولوج إلى صفحات التاريخ ، متناسين أن هذا التكريم سيكون بمثابة منح شهادة ميلاد جديدة واعترافًا صريحًا بتلك الجهود الحثيثة طوال مشوارهم ، وحافزًا للأجيال الجديدة من المبدعين على الخلق والإبداع والابتكار والسير على نهج أساتذتهم الذين منحتهم الدولة كل التكريم والتقدير واعتلاء منصات التتويج ، وبهذا تتلاشى الفجوة التى قد تحدث بين تواصل الأجيال التى لابد أن تحافظ على جذوة الإبداع فى توهج مستمر . لذلك كانت سعادتنا فى الأمس القريب عندما شاهدنا ما أثلج صدرونا ، عندما تحققت المبادرات الطيبة من أكاديمية الفنون وبعض الجامعات والمراكز العلمية والبحثية بقيامها بتكريم بعض رموز الفن والسياسة والعلم فى مصر والعالم العربى وذلك بمنحهم شهادة الدكتوراه الفخرية فى احتفاليات مهيبة تليق بمنجزاتهم ، تكريمًا وتقديرًا لما قدموه من إنتاج سياسى أو علمى أوفكرى أو وجدانى راقٍ له صفة الخلود والتأثير الإيجابى على المجتمع.فوجدت أنه لا غرو أن نكتب عن الرواد اليوم بكل الفخر والإعزاز ليروا فى حياتهم تلك اللفتة الواجبة من الدولة والجهات الرسمية التى تحمل لواء الفنون والآداب ، وليعيشوا لحظات الفرح التى تشبه فرح الفلاح فى حقول القمح لحظة الحصاد ؛وهو يمسك بأعواد السنابل الخضراء ويعرف تمام المعرفة أنها ستكون فى لحظة ما «رغيفًا» فى كل يد ٍ شريفة تحب الوطن .