أظن إعلان الرئيس الأمريكي ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لم يأت اعتباطاً في توقيته، ولم يصدر فورة انفعال بغير دراسة، مثلما أظن وصول ترامب نفسه إلي السلطة لم يكن مصادفة، وأن إعلانه هذا هو سبب دخوله البيت الأبيض، وربما يكون ثمن بقائه بداخله رغم كل ما يثار من عواصف تهدد استمرار رئاسته. يقدم ترامب نفسه في صورة الرئيس الذي يستطيع أن يفي بما يعجز سابقوه عن الوفاء به. في حملته الانتخابية وعد بالاعتراف، ووعد بنقل السفارة الأمريكية إلي القدس، وبعد دخوله البيت الأبيض أعلن عزمه علي انجاز الوعد، ثم تأجل قراره من الذكري الخمسين لاحتلال القدسالشرقية في حرب يونيو 1967، تحت ضغط من قادة عرب التقوه، وحذروا من أن هذا القرار سينسف فرص السلام وسيقود المنطقة إلي دوامة أشد من العنف والإرهاب. اختار ترامب الإعلان عن قراره قبل أن ينصرم العام الذي شهد مرور مائة سنة علي وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقبل حلول عيد »الحانوكا» أو عيد الأنوار اليهودي الذي احتفل به مع ابنته التي تهودت وزوجها اليهودي جاريد كوشنر كبير مستشاريه ومبعوثه إلي الشرق الأوسط للبحث في فرص التوصل إلي »صفقة نهاية المطاف» - علي حد تعبير ترامب - بين الفلسطينيين وإسرائيل. • لعل تقدير الموقف الأمريكي كان يراهن علي أن هذا الوقت هو الأنسب للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واستباق أي مفاوضات حول جوهر النزاع »الفلسطيني الإسرائيلي». فالدول العربية إما ممزقة أو منكفئة علي مشاكلها الداخلية، أو منشغلة بترتيبات انتقال حكم، والدول الإسلامية تتنازع فيما بينها علي غير مغنم أو قضية، وتنقاد انقياداً إلي أتون حرب بسوس طائفية بين سُنة وشيعة، والفصائل الفلسطينية التي تكاد تنهي قطيعتها بجهود مصرية مضنية، لابد أن يعيدها القرار إلي مواجهات تقضي علي أي أمل في مصالحة. كان التقدير الأمريكي - في ظني - يستبعد ردة فعل عربية أو إسلامية رسمية صاخبة، ويتوقع اندلاع مظاهرات شعبية وقتية في البلدان العربية موجهة إلي نظمها الحاكمة، تؤجج العنف داخل هذه البلدان وتزيد من عدم استقرارها، وهذا جزء من المطلوب! كان التقدير - هكذا أتصور - أن تصريحات من قبيل ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون أمس الأول، وزيارة كتلك التي سيقوم بها نائب الرئيس مايك بنس خلال عشرة أيام، يمكن أن تهدئ ثورة الشعوب العربية والإسلامية، وتخفف غضب قادة البلدان العربية، خاصة أن بنس قد يقدم مشروعاً صورياً لاستئناف المفاوضات يبقي علي هدف التفاوض من أجل التفاوض أو الحركة بغير تحرك! بعد ثمان وأربعين ساعة من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واعتزامه نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي »أورشليم»، خرج تيلرسون بتصريح أشد وقاحة من إعلان رئيسه، يقول: »إن الرئيس لم يشر إلي وضع نهائي بالنسبة للقدس، وأن القرار النهائي بشأنها متروك للمفاوضات، أما نقل السفارة فلن يتم هذا العام ولا العام المقبل، بل ربما في عام 2019». مؤدي كلام تيلرسون أن ترامب لم يسرق العرب، إنما هو فقط وضع يديه في جيوبهم وأخذ محتوياتها، وهذه ليست سرقة! الوقح في تصريحات تيلرسون أنها تستخف بعقول العرب بأكثر مما استهان رئيسه بنخوتهم وكرامتهم. وليس أشد تدنياً من أولئك الذين تلقفوا هذه التصريحات علي أنها تراجع، ووجدوا فيها طوق نجاة لإنكار ما لا يريدون تصديقه، ولعدم التصدي لما لا يستطيعون له دفعاً! ثمة أقاويل تروج للإقلال من تأثير قرار الرئيس ترامب، منها أن قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس لم يغير شيئاً علي الأرض، فالقدسالغربية بيد إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948، والقدسالشرقية استولي عليها الجيش الإسرائيلي في حرب 1967، والكونجرس الأمريكي أصدر منذ 22 عاماً قانوناً يعتبر القدس عاصمة لإسرائيل وظل تنفيذ القانون مؤجلاً بقرارات من الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين. يقال أيضاً أن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي القدس، هو مجرد انتقال لقطعة قماش هي العلم من مكان إلي آخر، لا يعني شيئاً، فضلا عن أن مبني السفارة الجديد غالباً سيكون في القدسالغربية التي يقر العرب والفلسطينيون أنفسهم أنها ستكون عاصمة إسرائيل عند تنفيذ حل الدولتين! تلك الأقاويل لا معني لها سوي الضحك علي لحي العرب وشواربهم، فالولاياتالمتحدة وهي الراعي الوحيد لعملية السلام والقوة الأعظم عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في العالم، حسمت بهذا القرار وضع القدس قبل التفاوض، انتهاكاً لكل قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي وقضية القدس، وألغت مرجعيات عملية السلام في مدريد وأوجدت واقعاً، ينسف عملية السلام، ويقتل أي أمل في إعادة إحيائها من بعد موتها، ويجعل أي حديث عن مفاوضات من قبيل الهزل الذي لا ينطلي حتي علي السذج! فضلاً عن أن القدس ليست مجرد أرض محتلة، أو عاصمة لدولة فلسطين التي تعترف بها غالبية دول العالم. إنما هي البلدة القديمة بحرمها القدسي الذي يموت المسلمون ولا يفرطون فيه، وبمقدساتها المسيحية في طريق الآلام حيث كنيسة القيامة، التي تهوي إليها أفئدة المسيحيين بالأخص العرب الذين كانوا أول من آمن بالمسيح ورسالته. قرار ترامب افتئاتا علي الحق العربي الفلسطيني وعلي قرارات الشرعية الدولية، ينقل أمريكيا القدس من وضع أرض فلسطينية محتلة، إلي وضع أرض إسرائيلية، يحق للسلطات الصهيونية أن تغير فيها ما تشاء وتنقل منها من تشاء وتفعل بها ما تريد. في تقديري المتواضع أن اعتراف الولاياتالمتحدةبالقدس عاصمة لإسرائيل، هو معلم رئيسي في خريطة شرق أوسط جديد، تسعي الولاياتالمتحدة إلي رسمها بالسكين والأزميل، لتلائم المقاس الإسرائيلي بعد تدمير العراق، وخراب سوريا، وزوال الدولة الليبية، وزعزعة استقرار مصر واستهداف السعودية، واشعال نيران الفتنة بين السنة والشيعة بالأخص في إيران. وأخشي أن مخطط النيل من مصر الذي تعطل بقيام ثورة يونيو، سيأخذ منحني أكثر نشاطاً في العام المقبل، فمصر تظل العقبة الكؤود أمام مؤامرات تفكيك وتقسيم الدول العربية ودفن القضية الفلسطينية، وتبقي رغم معاهدة السلام، رأس الرمح العربي، بل لعلها الرمح، في الدفاع عن الحق الفلسطيني، منذ نشأت القضية، إلي الآن وفي المستقبل، وهي أكثرمن ضحي بالأرواح والدماء من أجل قضية فلسطين، بل أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. لست ممن يفتشون في الثوب الأسود عن بقع بيضاء. غير أنني لا استطيع أن أتجاهل إيجابيات أراها، جاء بها قرار ترامب علي غير ما يبغي ومن حيث لم نكن نتوقع. أولاً: إذا كان قرار ترامب اختار الوقت الأنسب عربياً لتمريره، فإن المفاوضات في هذه الآونة حتي لو لم يصدر القرار، كانت ستتم في الوقت الأسوأ عربياً لاستئنافها. ذلك أن توازن القوي مختل خللاً لا يصون حقاً ولا يسترجع أرضاً. ودرس التاريخ الذي لا يتغير يقول إنك لن تستطيع أن تستعيد أرضاً بالسلام، لا تقدر علي أن تحررها بالسلاح. ثانياً: أن المصالحة الفلسطينية إذا كانت ضرورة تفاوض، فإنها الآن حتمية بقاء. وظني أن كل الفصائل تدرك الآن أن نزاعات البعض علي غير قضية، وصراعات البعض علي غير مطمع، وسلاح الأخ الذي انحرف عن هدفه ليطعن شقيقه، كلها أدت بالقضية الفلسطينية إلي ما آلت إليه. وليس هناك دافع للتوحد أقوي من قضية القدس. ثالثاً: أن الشعب الفلسطيني المرابط الذي هب مجدداً ذوداً عن أرضه ومقدسات العرب والمسلمين، هو السلاح الأقوي في درء العدوان، وعلينا أن نتذكر أنه لولا الانتفاضة الأولي، ما انعقد مؤتمر مدريد، وما كانت اتفاقات أوسلو، ولا تأسست سلطة فلسطينية تحكم شعبها علي أرضه، وتقود نضاله نحو تأسيس دولته. وتبقي المقاومة هي الخيار الذي لا يجب تنحيته لإجبار إسرائيل علي ما تحميها منه الولاياتالمتحدة. رابعاً: أن موقف الشعوب العربية والإسلامية الغاضب الهادر من المحيط الهندي إلي المحيط الأطلنطي، يؤكد أن الأمة العربية تحديداً مازالت رغم أزماتها، ونكباتها، حية ولم تمت، وأنها قادرة دوماً علي أن تنفض كفنها كلما هيئت للدفن. ولعل هذا الموقف يدفع بالحكومات العربية إلي التآزر خلف الموقف المصري الساعي لاستعادة العواصم والبلدان العربية وانتشالها من أزماتها، ويفتح أعين هذه الحكومات لتري ما تتغافل عن رؤيته من أدوار لعبتها دويلة عميلة في مخطط تمزيق الدول العربية وتأجيج الفتنة الفلسطينية. خامساً: إن جماعات الإرهاب التي ترتع تقتيلاً وتخريباً في البلدان العربية متدثرة زوراً وبهتاناً برداء الدين، فقدت أي ذرائع واهية لها حتي بين صفوف المتطرفين والمتشددين الذين لا يحملون السلاح. فالقدس ليس مكانها سيناء، والذين يحتلون الأقصي ليسوا في سوريا ولا ليبيا ولا في اليمن، والذين اعترفوا بالقدس عاصمة لإسرائيل هم الذين نقلوا الإرهابيين إلي سورياوالعراق وهم الذين ينقلونهم الآن إلي ليبيا للتسلل إلي مصر. سادساً: أن من لم يكن يعي في الرأي العام المصري لعله صار يفهم الآن لماذا توسع القيادة المصرية دائرة علاقات مصر الاستراتيجية وتعمل علي بناء علاقات متوازنة مع كل القوي في روسيا والصين وأوروبا بجانب أمريكا ولا تأخذ بأدبيات سياسة خارجية لنظم سابقة، كانت تضع كل رهاناتها في سلة الولاياتالمتحدة.. ولماذا تعمل القيادة المصرية علي تنويع مصادر تسليح جيشها، ولماذا تنطلق في زيادة قدرته علي الدفاع والردع. لست أدعو إلي حرب مقدسة ضد الولاياتالمتحدة، لن تقوم إلا علي وسائل التواصل الاجتماعي. ولست أطالب بقطع جماعي لعلاقات الدول العربية والإسلامية بأمريكا، لأني لست من الواهمين. ولست أحمل مصر وحدها مسئولية التصدي لقرار ترامب، لأن في ذلك تعسفا وغيبة إنصاف في تحديد الأدوار ومعالجة الأمور. لكن.. أضعف الإيمان أن تجتمع منظمة التعاون الإسلامي التي تترأسها تركيا علي مستوي القمة. وأن تنعقد القمة العربية التي تترأسها الأردن في دورة طارئة. وأن تدعو المغرب لجنة القدس التي تترأسها إلي اجتماع عاجل. أقل ما ننتظره هو موقف رفض جماعي لقرار ترامب، ودعوة للدول الصديقة والقوي الكبري المنصفة إلي الاعتراف بدولة فلسطينوبالقدسالشرقية عاصمة لها، وعدم ترحيب بزيارة نائب الرئيس الأمريكي الذي أعلن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أنه لن يلتقيه مؤكدا في بيان شجاع يعيد للأزهر مكانته أنه لن يجلس مع من يزيفون التاريخ. وربما تعيد دول عربية وإسلامية النظر في الهرولة باستثماراتها وأرصدتها إلي من يستهينون بكرامة العرب ويستبيحون حقوقهم ومقدساتهم. وأتمني لو كان بين الخيارات المطروحة، إذا انعقدت احدي القمم أو بعضها، هو عدم التعامل مع إدارة ترامب، حتي يلغي قراره. أتمني أن يفيق سلطان تركيا من أوهامه، ويدرك أن أحد دوافع قرار ترامب هو ما ارتكبته تركيا بيديه في سورياوالعراق، وما قدمته من دعم للإرهاب في مصر. ولن أكايد إيران وأسألها أين هو جيش القدس العرمرم الذي يضم الملايين.. فقط أتمني لو تفيء إلي أمر الله، وتكف يدها عن أذي جيرانها العرب، وتطفئ نيران فتنة شيعية سنية، يراد لها أن تكون غطاء لتدميرها علي يد أمريكا وإسرائيل. لكن هل كل ما يتمناه المرء يدركه؟! المقاومة، والتوحد، واستعادة الدول المركزية العربية من مصيرها المخطط هي أدواتنا للدفاع عن القدس وأقصاه، فليس علينا القعود انتظاراً لوعد الآخرة.