منذ زمن طويل، قبل أن أسافر إلي سوريا قرأت عن نهر بردي الذي كتب عنه أحمد شوقي : سلامٌ من صَبا بَرَدَي أرَقُ ودمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دمشقُ وسمعت فيروز تغني له : مرّ بي يا واعداً وعدا مثلما النسمةُ من بردي لذلك تمنيت أن أري هذا النهر، وحين زرت دمشق لأول مرة ركبت تاكسياً وطلبت من السائق أن يأخذني إليه. توقف السائق في أحد الشوارع الكبيرة، وقال لي : هذا هو بردي. نظرت حيث أشار فلم أر شيئاً. فعهدي بالنهر أن الإنسان يراه دون حاجة لمساعدة. قلت للسائق : أنا لا أري شيئاً. أين هو ؟ قال : خلف هذا السور ؟ وأشار إلي سور حجري متوسط الارتفاع. سرت نحو السور، فوجدت مجري مائياً صغيراً، في قاعه قليل جداً من الماء. تعجبت. فقد كان أصغر من أي ترعة في مصر. والآن حين علمت أن المسئولين في مصر يريدون ردم ترعة المحمودية تذكرت هذه القصة، وتمنيت لو أن هؤلاء المسئولين زاروا سوريا ورأوا بردي الذي تكتب فيه القصائد وتغني له الأغاني ليعرفوا قيمة المحمودية. بدأت حكاية ترعة المحمودية بعد أن تولي محمد علي حكم مصر، فقد لاحظ أن الحركة التجارية والعمرانية انتقلت من الإسكندرية إلي رشيد، كما أن عدد سكان المدينة تقلص إلي بضعة آلاف، لأنه لا يوجد بها مصدر للماء. وفكر محمد علي في وسيلة تعيد الحياة إلي الإسكندرية، فهداه التفكير لحفر ترعة تأخذ ماءها من فرع رشيد، وتصب في البحر المتوسط. ونفذ محمد علي مشروعه، فصارت الترعة شريان حياة المدينة، وحققت لها ثلاث فوائد : 1- توفير مياه الشرب 2- زراعة مساحات هائلة علي جانبيها 3- خلق شريان جديد للنقل النهري. ووزع محمد علي وأبناؤه الأرض الزراعية الجديدة علي الأسرة العلوية ومحاسيبها، فأخذ محرم بك زوج ابنة محمد علي إقطاعية كبيرة صارت الآن حياً معروفاً، وأخذ ابنه سعيد باشا منطقة القباري، أما باكوس فكانت من نصيب فرع طوسون، ولايزال قصر طوسون باشا يستخدم مقراً للإذاعة ومعهداً للتمريض. وأنشأ محمد علي لنفسه ثلاثة بيوت علي الترعة، وكان حين تضيق به الدنيا يذهب إليها ليريح أعصابه. وفي عصر حفيده إسماعيل جاء الخليفة العثماني، السلطان عبد العزيز لزيارة مصر، وأراد إسماعيل أن يقدم له صورة مبهرة لجمال الطبيعة المصرية، فأخذه في رحلة نهرية في ترعة المحمودية ليري الخضرة علي ضفافها وقصور الأمراء التي تحيط بها. إذ تفنن الأمراء في بناء القصور، لحد أن أحد الأمراء جعل بوابة قصره علي هيئة بوابة قصر فرساي وفي العصر الحديث، لعبت الترعة دوراً مهماً في النقل. ويكفي أن نعرف أن هذه الترعة هي التي نقلت معدات السد العالي الضخمة التي جاءت من روسيا، حيث كانت السفن ترسو بالمعدات في ميناء الإسكندرية ثم تنقلها السفن عبر المحمودية، إلي أسوان. ثم أهملت الترعة بعد السد العالي، وتحولت إلي مقلب للقمامة ومرتع لورد النيل، ولم يهتم بها أحد من المحافظين سوي عبد السلام المحجوب، الذي كان لديه حس جمالي يفوق كل المحافظين السابقين واللاحقين، فرصف الطرق حولها، واهتم بضفتيها، فأقام البرجولات، ووضع المقاعد الجميلة، وأظن أنه كان يريد أن يحاكي شاطئ نهر السين أو التيمز. لكن المحجوب مضي فهجمت أيدي الإهمال والتدمير علي منجزاته لتهدم ما بناه. وها هم الآن يريدون ردمها !!! يا سادة، اهتموا بمحور المحمودية واستغلوه في النقل كما شئتم، لكن لا تردموا الترعة. نحن في بلاد حارة والمجاري المائية تلطف الجو فلا تستسهلوا. وهذه الترعة يمكن أن تستخدم في النقل البحري، ويمكن أن تكون مصدراً للجمال، إذا كان فيكم من يتذوق الجمال. فارفعوا أيديكم عنها يرحمكم الله.