لا أحب يوم الإثنين، ولا رقم خمسة، ولا شهر يونيو. شعرت بغصة حين وجدت اليوم والرقم والشهر يجتمعون معا هذا العام، مثلما اجتمعوا منذ نصف قرن في سنة 1967. لكن سرعان ما تبدل شعوري حين اكتشفت أن التاريخ الهجري الموافق هو العاشر من رمضان! لعله من تصاريف الأقدار أن تتواكب ذكري 5 يونيو مع ذكري 10 رمضان في يوم واحد هذا العام بالذات، لندرك أن الإحساس بالهزيمة أو النصر، لا يرتبط بيوم بعينه ولا بمناسبة تاريخية، إنما هو حالة بيد الإنسان يراودها وتراوده، ويسمح لها أو لا يسمح بأن تلازمه، حسبما شاءت إرادته وهمته، وحسبما كانت درجة ثقته بنفسه وإيمانه بوطنه. لك يوم غد أن تختار، إما أن تشعر بأنك مهزوم، حتي لو أعقب الهزيمة نصر، أو أن تشعر بأنك منتصر، دون أن تغفل أسباب الهزيمة. عن نفسي.. فضلت الخيار الثاني! • خمسون عاما مضت علي عدوان الخامس من يونيو 1967. كان اسم العملية العسكرية هو »اصطياد الديك الرومي». كان لابد من تدمير مقدرات الدولة المصرية الحديثة الثانية، التي أحيت فكرة القومية العربية، وساندت حركات التحرر الأفريقية، وقاومت الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، وواجهت سياسة الأحلاف، وقادت مع الهند ويوغوسلافيا حركة عدم الانحياز. كان لابد من إجهاض أنجح التجارب التنموية في العالم الثالث (1962 - 1967) ، وإيقاف خطط التصنيع الثقيل وبرنامج صناعة الطائرات المقاتلة والصواريخ متوسطة وبعيدة المدي وارتياد الفضاء. كان لابد من القضاء علي الجيش المصري بحيث لا تقوم له قائمة، فلا يمثل خطراً بعدها لإسرائيل وأطماعها التوسعية في الأرض العربية. كان لابد من إسقاط جمال عبدالناصر، لتكون رأسه الطائرة رادعاً لكل من يفكر من العرب في أن يرفع رأس أمته. كان الهدف من كل ذلك هو كسر إرادة الشعب المصري. جاء عدوان يونيو كمؤامرة متكاملة الأركان لكنها كأي مؤامرة، لم يكن ليكتب لها النجاح، إلا لأننا أعطيناها الذريعة، ومكناها من النفاذ، وهيأنا لها أسباب الفوز! الأخطاء بل الخطايا عديدة وراء هزيمة الخامس من يونيو. أهمها في رأيي المتواضع أن المغامرة غلبت حسن تقدير الموقف، وأن انجراف العاطفة تغلب علي حكمة العقل. أغلقنا خليج العقبة، انسياقا وراء دعاوي النظام السوري وقتها بأن إسرائيل تستعد لضرب سوريا وأن نظام عبدالناصر تخلي عن مسئولياته القومية، وبرغم أننا نعلم أن قرار الإغلاق هو إعلان للحرب، فضلنا أن نتلقي الضربة الأولي، فكانت قاصمة. خضنا الحرب بجيش مجهد، بعض تشكيلاته الرئيسية تتمركز في اليمن، وتخوض في مستنقع حرب لا يبدو منه مخرج رغم مرور 5 سنوات علي قيامها. كان علي رأس القوات المسلحة قادة وقيادات، لا يتمتعون بالجدارة والمقدرة والعلم العسكري، بقدر ما يحظون بالثقة وألفة رفقة الثورة. كان الصف العربي في أضعف حالات التماسك، وكانت الجبهة الداخلية أسيرة دعايات ترفع من شأن النفس علي غير حقيقة، وتقلل من قدر الخصم علي غير أساس. كانت الطائرات علي الممرات بلا حظائر، فاصطادوها. وكان النظام منساقاً بلا عقال، فاصطادوه!
احتلت سيناء بأكملها، ومعها غزة، ومعهما الضفة الغربية لنهر الأردن، بما فيها القدس وبلدتها القديمة التي تحوي المسجد الأقصي وطريق الآلام. هزيمة عربية مروعة، تكسر أمما لمدة قرون. لكنها رغم فداحتها ومرارتها لم تكسر إرادة الشعب المصري ولا الأمة العربية. وفي التاسع من يونيو تنحي عبدالناصر القائد الجريح عن منصبه متحملا مسئولية الهزيمة، وبعدها بساعات خرج الملايين يبتلعون العلقم ويلعقون الجراح، وهم يهتفون بعودته إلي السلطة، معبرين عن وعي يفوق كل تصور، ورغبة عارمة في ألا يحقق العدوان غرضه وهو كسر إرادتهم وإسقاط زعيمهم. لم تستسلم القوات المسلحة للهزيمة.. فبعد أقل من 3 أسابيع، أحبط رجال الصاعقة هجوما شنته وحدات مدرعة إسرائيلية جنوب بورفؤاد عند منطقة رأس العش بغرض احتلالها، ونجحوا في تدميرها، ليبقي للجيش المصري موطئ قدم علي أرض سيناء. بذلك.. بدأت حرب الثلاث سنوات، بمرحلة الصمود، ثم الدفاع النشط، ثم الاستنزاف، ومعها إعادة بناء القوات المسلحة من نقطة الصفر، تدريباً وتسليحاً ورفعا للكفاءة القتالية والاستعداد القتالي، وكانت ضربة البداية هي إسناد قيادة القوات المسلحة لقادة أكفاء، قادرين، يتمتعون بحسن التخطيط والتنظيم ومهارات القيادة، وأيضا بالانضباط والاتزان الانفعالي.
كانت أسرتي، واحدة من قرابة نصف مليون أسرة، أجبرت علي هجران بيوتها في مدن القناة، مع عدوان يونيو، لا أذكر ولم تكن ذاكرتي قد تشكلت أحداث تلك الأيام. لكن أيام حرب الاستنزاف وما بعدها تظل أقوي ما تحفظه ذاكرة طفل، احتفر وجدانه، بنعيق صفارات الإنذار، وطنين الغارات، ودوي الانفجارات، وقتامة اللون الأزرق علي النوافذ ولمبات الإنارة، ورمادية المخابيء في بدرومات المنازل، وانسداد مداخل البيوت بجدران طوب، واستهلت صفحات قاموسه اللغوي بمفردات: عدوان.. تهجير.. نكسة.. فانتوم.. سكاي هوك.. دماء.. شهداء.. استنزاف.. بحر البقر. كانت الناس تحصل علي الجاز واسطوانات الغاز بالكوبونات، وتقف بالساعات طوابير أمام الجمعيات للحصول علي كيلوجرام واحد من الأرز أو السكر أو عبوة زيت، لم يكن هناك سوبر ماركت تشتري منه ما تشاء، ولا محل بقالة يبيع سلعاً أساسية، كانت أردية الصيف وأقمشة »كاستور» الشتاء بالبطاقات، كان التيار الكهربائي ينقطع ساعات طوالا، فإذا جاء يعود للانقطاع تحسبا لغارة وحذراً من إنارة ترشد طائرات العدو. صبر الشعب ووقف خلف جيشه يتحمل، يدفع قروشاً أو جنيهات حسب مقدرة الأسرة، للمجهود الحربي أو سنوات الجهاد. لم ينقلب الخوف من الغارات - وهو شعور إنساني - إلي ذعر من العدو، وإنما صار بركان غضب وكانت أغاني الصمود تصدح عقب كل غارة، تبشر بالفجر الآتي، والعودة إلي شط القنال علي كف النهار. كنت أرقب أمي وجاراتها يقضين الوقت في أعمال الإبرة و»الكانفاه»، ثم يضعن المشغولات في الأدراج، فلن يكون لها مذاق ولا رونق، إلا إذا علقت أو فرشت في الدار، المهجورة، بعد النصر والرجوع. لم تنكسر إرادة الشعب، ولم تنهزم عزيمة الجيش، ولم تساور الجماهير أي شكوك في أن يوم المعركة المرتقبة آت، وأن نصر الله قريب.
أرسي عبدالناصر قبيل رحيله أساس البناء الجديد للقوات المسلحة، ورفع أنور السادات القواعد من الجيش. تسلم السادات من عبدالناصر حائط الصواريخ، وبدأ إعداد خطط الحرب حسب تطور إمكانات وقدرات القوات المسلحة.. تعدلت الخطة »جرانيت» إلي خطة »المآذن العالية»، ثم الخطة »بدر».. خطة حرب العاشر من رمضان. تطعمت القوات المسلحة بالمعركة طوال حرب الاستنزاف، وتدربت علي عبور قناة السويس في أكثر من موقع مشابه داخل الوادي. واختير لقيادة القوات المسلحة وقيادة التشكيلات التعبوية والتكتيكية أصلح القادة وأكثرهم كفاءة. كل شيء جري حسابه بميزان الذهب.. كيف ستعبر القوات بالقوارب وفوق المعابر، كيف سيتم التعامل مع مواسير النابالم المنصوبة علي طول الشاطئ الشرقي للقناة لتضخ الحمم فوق صفحة القناة وتشعل المياه نيرانا تحرق العابرين، كيف سيتم اجتياز الساتر الترابي الذي يرتفع بطول 20 متراً وبزاوية ميل 80 درجة ليمنع أي محاولة لتسلقه، وكيف سيتم شق الثغرات فيه لتنفذ منها الدبابات والمركبات شرقاً، كيف سيتمكن أفراد المشاة من قتال القوات المدرعة المعادية وتدميرها والاستيلاء علي النقاط الحصينة لحين عبور الوحدات والتشكيلات المدرعة. كيف سيتم تنسيق عناصر معركة الأسلحة المشتركة بين الطائرات والمدافع والتشكيلات البرية وأيضا السفن الحربية علي شاطئ المتوسط. قبل كل ذلك.. كيف سيتم إخفاء النوايا، كيف يمكنك أن تضلل العدو، وأن تبدأ الفتح الهجومي دون أن يعرف أنك تبدأ الحرب، كيف تستطيع أن ترسل مدمراتك إلي باب المندب قبل الحرب بشهر، لتغلقه في ساعة الصفر، وتحت أي غطاء سترسلها. والأهم.. كيف ستنسق مع الجانب السوري خطة العمليات، ويومها، وتوقيتها ليندلع الهجوم في نفس اللحظة.. ما هو اليوم الأنسب للهجوم وعلي أي أساس، والتوقيت الأمثل لبدء العمليات في هذا اليوم، هل مع أول ضوء أو آخر ضوء، أو في منتصف النهار ولماذا؟ كل شيء كانت له إجابة وخطة ومقدرة علي التنفيذ، تظللها إرادة غلابة لتحقيق النصر وتحرير الأرض، وإيمان بالله، لا يزعزعه امتلاك العدو لنحو 13 قنبلة ذرية.. كان يمتلك وقتها هذا العدد، وكنا نعلم، وكان تصميمها علي القتال أقوي من القنابل الذرية.
ستة أيام استغرقتها عملية يونيو 1967، وست ساعات أفقدت العدو توازنه يوم العاشر من رمضان. قبيل حلول الساعة الثانية من بعد الظهر، كانت القاذفات الثقيلة المصرية تحلق في منطقة ما شرق الدلتا تطلق صواريخها علي مراكز القيادة والسيطرة للعدو في قلب سيناء، وفي الساعة الثانية وخمس دقائق، كانت 222 مقاتلة وقاذفة مصرية تعبر القناة شرقاً في توقيت متزامن تندفع إلي أهدافها المحددة من مواقع صواريخ وقواعد جوية ومراكز قيادة وتشويش وحرب الكترونية. ومع عبور الطائرات.. هدرت المدافع بعدد أكثر من ألفي قطعة مدفعية، تطلق داناتها علي النقاط الحصينة لخط بارليف واحتياطات العدو، بمعدل 175 دانة في الثانية الواحدة ولمدة 53 دقيقة. وتحت ستر التمهيد النيراني.. بدأت طلائع المشاة في اقتحام القناة، وتساقط الحصون والنقاط القوية، وفي الثامنة مساءً كان لنا 80 ألف جندي من 5 فرق مشاة علي أرض سيناء. في اليوم الثالث للحرب.. نجحت قوات الفرقة الثانية المشاة المعززة باحتياطي الجيش الثاني المضاد للمدرعات في تدمير الهجوم المضاد الإسرائيلي وتدمير اللواء المدرع (190).. وخرج موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي يعلن انها حرب ثقيلة بأيامها ودمائها، بينما كانت رئيسة الوزراء جولدا مائير تستغيث بالرئيس الأمريكي نيكسون وتطلق نداء »أنقذوا إسرائيل». تواصلت الحرب وأشتد القتال ولم يستطع الجسر الجوي الأمريكي الذي زود إسرائيل بأكثر مما فقدته من طائرات ودبابات، وبأحدث مما كانت تحوزه من معدات وصواريخ، أن يقلب مسار المعركة لصالح إسرائيل. كان لمصر خمسة رءوس كباري علي الشاطئ الشرقي، ولم تنجح الثغرة التي أقامتها إسرائيل عند الدفرسوار بفضل الصور الجوية التي زودتها بها الأقمار الصناعية الأمريكية وطلعات طائرات التجسس »إس.آر-71» علي جبهة القناة وما وراءها، إلا في إقامة رأس كوبري واحد مضاد. تمسكت القوات المسلحة بالأرض علي طول خط المواجهة شرق القناة بعمق ما بين 12 كيلومتراً و15 كيلومتراً داخل سيناء، وصمد الجيش الثالث يقاتل الثغرة. أعدت القيادة العامة للقوات المسلحة الخطة »شامل» لتدمير الثغرة بقواتها تدميراً شاملاً، وكان المخطط ان تنفذ الخطة في شهر ديسمبر، لولا تدخل الولاياتالمتحدة، فانسحبت إسرائيل بقواتها من الثغرة في يناير 1974 فيما عرف باتفاق فك الاشتباك الأول ثم إلي ما وراء المضايق عام 1975 بعد اتفاق فك الاشتباك الثاني. واستكملت مصر بالسلام ما أنجزته الحرب، فانسحبت إسرائيل مما تبقي من سيناء علي مراحل في أعقاب توقيع معاهدة السلام في مارس 1979 وحتي اكتمل الانسحاب في 25 أبريل 1982، وتحررت آخر حبة رمل مصرية في طابا يوم 19 مارس 1989 بعد ماراثون في التحكيم الدولي. في حرب رمضان، حققت قواتنا المسلحة الظافرة نصراً مؤزراً، كانت بشارته في يوم العاشر من رمضان، حينما نجح رجال المشاة في عبور القناة واقتحام حصون خط بارليف، الذي قال الخبراء السوفييت أنه يستحيل علي التدمير إلا بقنبلة ذرية. وحينما أذاع الراديو البيان رقم (7) عن القيادة العامة للقوات المسلحة عصر يوم العاشر من رمضان، يعلن نجاح قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس علي طول الشاطئ الشرقي، احتبست أنفاس المصريين، لتهدر سماء مصر بعد الدقيقة التي استغرقها البيان بهتاف »الله أكبر»، الذي تلاقت أصداؤه دونما اتفاق مع نفس الهتاف الذي يصدر من الرجال العابرين لتحرير سيناء. مازلت أذكر ذلك اليوم المجيد، والفرحة تقفز من عيون الكل، تفيض علي المآذن والكنائس والحقول والمصانع وتغمر كل بيت.. ونسي الناس موعد الإفطار، فقد شبعوا من قوت النصر، بعد صيام 6 سنوات عجاف.
غداً.. نستحضر دروس نصر العاشر من رمضان، ونستعيد العبر من هزيمة الخامس من يونيو. نفخر بذكري عبور الهزيمة وتحقيق الانتصار، وندرك أنه لولا أننا انتصرنا بالسلاح ما كنا استكملنا تحرير الأرض بالسلام، ونعلم أنه لو لم تكن مصر قادرة علي استعادة ما تبقي من أرض سيناء بالقتال، ما نجحت في استعادتها بالتفاوض. وبروح النصر الذي مسح مرارة الهزيمة، أري خلاصة دروس يومي 5 يونيو و10 رمضان في 7 إشارات لعلها تغير طريقنا للمستقبل. الجيش الوطني القوي الحديث المحترف، هو الضمان لحماية التنمية وصون مقدرات الشعب، سيما في منطقة مضطربة تتقاذفها مخططات وأطماع. صلابة الجبهة الداخلية وتماسك الجيش والشعب هي الدرع الحقيقية لأي وطن. القائد الحكيم هو الذي يحسن تقدير الموقف، فلا ينجر إلي مصائد، ولا ينجرف إلي مغامرات، ولا يقتاد إلي مستنقعات، لكنه لا يتردد حين يُكتب علينا القتال، أن يبادر ويستبق ويجهض. امتلاك القوة الرادعة، هو الذي يمنع الحرب ويحفظ تراب الوطن وأمنه من أي أطماع.. فالضعف يغري بالعدوان. استعادة الأوطان العربية واستنهاض جيوشها الوطنية، مصلحة وطنية مصرية قبل أن تكون مصلحة قومية للأمة بأكملها. السياسة الخارجية الرشيدة، والاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع القوي العظمي والفاعلة دوليا، هي خط الدفاع الأول عن الأمن القومي لدولة بحجم مصر. الأمل درع لوجدان الشعوب والإرادة هي سلاحها. فلنحتفظ بالأمل الذي كان سبيلنا لقهر الهزيمة، وبالإرادة التي كانت أداتنا لتحقيق النصر.
آباؤنا من جيل أكتوبر أصحاب نصر العاشر من رمضان هم الذين استردوا لمصر العظيمة كرامتها. ومسئولية هذا الجيل أن يجعل من مصر العظيمة بلداً عظمي.