مقايضة إيران بإسرائيل هي ما يراد لنا بالضبط، أي أن تصبح إيران هي العدو المركزي، وأن تغدو محاربة إيران هي القضية المركزية للأمة العربية، بينما تكون إسرائيل هي الجار الطيب، والحليف المستتر فالظاهر لدول عربية أساسية، توصف في السياسة الأمريكية بمعسكر الاعتدال العربي، وتطلق عليها إسرائيل وصف »المعسكر السني»، وكأننا بصدد حلف سني يهودي ضد إيران النووية الشيعية (!). واللعبة جديدة قديمة، عمرها من عمر ذهاب ريح الأمة العربية، وهلاك المشروع القومي العربي، واندثار النظام الإقليمي للعرب، وتحول الجامعة العربية إلي قبر من رخام، وانعقاد القمم العربية في مراسم عزاء سنوي باهت، يوقع فيه السادة القادة علي قرارات جف حبرها علي الورق، تكاد لا تلتفت إلي القضية الفلسطينية، التي كانت سببا في اجتماع العرب، وفي إنشاء الجامعة العربية، وفي إصدار معاهدة الدفاع العربي المشترك، وفي توزيع الأدوار بين دول المواجهة ودول الدعم عقب هزيمة 1967، وفي قيادة الأمة إلي نصر تاريخي علي العدو الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973، ثم كانت الغمة والظلمة المدلهمة، وخذلان السياسة لنصر السلاح، والاندفاع علي طريق الخطيئة، وإلي أن وصلنا إلي محطة العام 1979، وقتها كانت مصر تخرج رسميا من قيادة المشهد العربي، وتخلي مكانها المتقدم في مواجهة إسرائيل، وتعقد ما يسمي معاهدة السلام، بينما كانت ثورة الخميني تقوم في إيران، وتنهي علاقة التحالف القديم بين إيران وإسرائيل، وتتقدم إلي دور متزايد ومتصاعد في دعم فصائل المقاومة ضد إسرائيل، وتبني لنفسها قوة عسكرية وعلمية هائلة، أي أن شمس إيران كانت تشرق، وفي اللحظة نفسها، كانت شمس العرب تغرب، وكان المشروع الإيراني يتوسع كل يوم، ويكسب أرضا جديدة، بينما تميد الأرض وتتزلزل من تحت أقدام العرب، وإلي أن صار المشرق العربي مغربا إيرانيا، ووصلت حدود إيران الاستراتيجية إلي شواطئ البحر المتوسط. والحاصل أن العرب هم الذين حطموا أنفسهم، وأضافوا لقوة الجار الإيراني مددا لا ينقطع، فقد فقدوا أولا بوصلة التماسك من حول القضية الفلسطينية، وانقطعوا عن سياق مواجهة الخطر الأصلي لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، ثم كانت ما تسمي »دول الاعتدال العربي» عونا لأمريكا في عملية غزو واحتلال العراق، فلم يكن بوسع واشنطن غزو العراق بريا بدون تسهيلات عربية، وبدون سلسلة من القواعد العسكرية في دول الخليج بالذات، وكان تحطيم العراق لفائدة توسع النفوذ الإيراني بطبائع الجوار المتداخل، فالحياة لا تعرف الفراغ، وكل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك، ثم كانت السقطة الأفدح، والتي اندفعت فيها ممالك الخليج وفوائضها المالية البترولية لدعم اللعبة الاستعمارية القديمة »فرق تسد»، وإنفاق مئات المليارات لتغذية أحقاد وحروب السنة والشيعة، وهو ما كانت أمريكا وإسرائيل تريدانه بالضبط، بينما كانت إيران أول المستفدين فعليا من حروب تكفير الشيعة، فالشيعية عنوان تماسك جامع في إيران، وهي دولة متعددة القوميات، لا يشكل الفرس فيها سوي ثلث عدد السكان، بينما المذهبية الشيعية تضم تسعين بالمئة من الإيرانيين، وتصوغ نوعا من القومية البديلة، وأضافت الدعايات السلفية والوهابية التكفيرية مددا قوميا عظيما لإيران، فقد دفعت الشيعة العرب إلي حضن إيران، وجعلتهم جزءا مباشرا من »التابعية» الإيرانية، وأدوات جاهزة لخدمة طهران و»الولي الفقيه»، وهكذا حل التيار القومي الإيراني محل التيار القومي العربي في التحكم بوجدان ومصائر المنطقة. توسع النفوذ الإيراني إذن من صناعة العرب الأكثر ثراء وجهالة، ومن نتاج الخطيئة الأصلية للعرب، فقد ترك العرب مواقعهم في مواجهة إسرائيل لإيران، ثم ترك العرب شيعتهم زادا إضافيا سائغا لإيران، ثم يريدون توريطنا الآن في عار الخدمة العلنية المباشرة لأمريكا وإسرائيل، وتصوير محاربة إيران كواجب ديني وقومي، وتصوير طهران كأنها العدو الأولي بالحرب، ودفع تريليونات الدولارات لواشنطن، ومنها إلي إسرائيل المندمجة استراتيجيا مع أمريكا، وجعل ترامب ونتنياهو من أولياء الله الصالحين، والاستهداء بإرشاداتهم الجليلة في الذود عن حياض »أهل السنة والجماعة»، والتزوير الشامل للإسلام والعروبة، وجعل الاستسلام والتحالف مع إسرائيل سنة واجبة، وأداء صلاة الجماعة من خلف إسرائيل (!). هذا هو العار الذي يريدونه لنا، و»العمي الحيثي» عن رؤية العدو الأصلي، وإحلال إيران محل إسرائيل، وإشعال المزيد من حروب التمزيق الذاتي في المنطقة العربية الإسلامية، وهو ما لا يفيد أحدا سوي إسرائيل، ويهلك ما تبقي من وجود العرب المنهمكين في حروب داحس والغبراء.