طيبة مدينة المائة باب صاحبة المجد والشهرة ذائعة الصيت، والتي شيد المصريون القدماء علي أرضها أعظم معابدهم، وفي أحضان جبالها وجنبات واديها أقاموا أروع مقابرهم، أضحت في ضوء ما تمتلكه من آثار وفنون، متحفاً مفتوحاً يعرض لنا صفحات مشرقة من تاريخ مصر الحضاري، وقد أتاحت لها الأقدار أن تمتد بها الحياة آلاف السنين، لتبقي شاهدة علي عظمة ورقي الحضارة المصرية القديمة، وسمو روح المودة والتسامح بين المصريين. وقد ذكرت النصوص المصرية القديمة أن للمدينة تاريخًا يمتد إلي عصر بناة الأهرام، ثم بدأت الأضواء تُسَلَّط عليها ابتداءً من عصر الدولة الوسطي، وتحديدًا منذ عهد »الأسرة الحادية عشرة«، إذ أصبحت العاصمة الدينية والسياسية لمصر خلال تلك الحقبة؛ ومع بداية الإمبراطورية المصرية الحديثة، أخذ نجم طيبة يسطع وعَلَا شأنها، فقد صارت العاصمة الرسمية لمصر. ولعل السبيل هنا لا يتسع لنا لطرق أبواب طيبة المائة، فذاك الأمر يحتاج إلي مجلدات؛ ومن ثم فقد آثَرْتُ البدء بطرق أول أبواب طيبة، وهو معبد الأقصر والذي يعتبر بحق أيقونة من أيقونات العمارة في مصر القديمة، ويرجع الفضل في وجود المعبد بصورته الحالية إلي الملك «أمنحتب الثالث»، أحد أشهر ملوك «الأسرة الثامنة عشرة»، وقد شيد الملك هذا المعبد لثالوث طيبة المقدس، ثم أضاف الملك «رمسيس الثاني»صرحاً كبيرا ًوفناءً واسعاً إلي المعبد، وقد استغل هذا الصرح الضخم في تسجيل المعارك الحربية التي خاضها ضد أعدائه؛ ثم توالت بعد ذلك الإضافات إلي المعبد عبر التاريخ المصري القديم. وقد تميز معبد الأقصر دون المعابد المصرية القديمة بأنه يحمل فوق أوتاده رسالة تتضمن «السماحة والمودة بين الأديان» فلمعبد الأقصر قيمة مضافة إلي جانب القيمة الأثرية والمعمارية الفريدة، حيث ينفرد بكونه المعبد الوحيد بين المعابد المصرية القديمة الذي يضم في جنباته معبداً وكنيسةً ومسجداً. ولعل في ذلك ما يؤكد علي تسامي روح التسامح والمؤاخاة بين أهل الأقصر، فقد أكدت الاكتشافات الأثرية وجود بقايا كنيسة من العصر القبطي تقع داخل الفناء الذي شيده الملك «رمسيس الثاني»؛ وفي الركن الشمالي من الفناء، يقف إلي اليوم أحد أشهر مساجد الأقصر، وهو مسجد سيدي «يوسف أبو الحجاج»، والذي كان الاحتفال الخاص بمولده يقام أمام معبد الأقصرحتي وقت قريب. وأتعجب حين أسمع بين الحين والآخر عن الفتن الطائفية التي تحدث هنا أو هناك خاصة في صعيد مصر، في ظل ما نمتلكه من موروث حضاري عظيم، ولعل السبب الرئيسي لظهور تلك الأحداث والفتن هو الجهل.. فالجهل بالدين أو الجهل بقواعد الشرع، أو الجهل بالحقوق والواجبات، هو ما يؤدي دوماً إلي حدوث الفتن. ونحن إذا أردنا حلاً جذرياً لتلك القضية علينا البدء فوراً في عملية إصلاح شامل لمنظومة التعليم في مصر، لتتضمن المناهج التعليمية ما يعزز ويصون الوحدة الوطنية، والعمل علي غرس قيم العدالة والمساواة بين أبناء الوطن. والأمر هنا لا يتوقف فقط علي إصلاح العملية التعليمية، بل يتخطاها إلي ضرورة تغيير الخطاب الديني المتعصب، والعمل الجاد علي عودة الخطاب العاقل بدلاً منه؛ وأيضا من الأسباب الجوهرية التي لايمكن إغفالها غياب سيادة القانون والأحكام العادلة السريعة، فالقصاص العادل لمرتكبي مثل هذه الجرائم سيكون رادعا لمن يفكر أو تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الأحداث، أما غياب العدالة، فهو بيئة خصبة لانتشار العنف في المجتمع. ويجب علي مؤسسات الدولة أن تنحي جانباً ما يعرف بجلسات الصلح العرفية، والتي من شأنها أن تؤسس لضياع سلطة الدولة وفقدان هيبتها.إن إصدار القوانين والتشريعات التي تتيح حرية إقامة دور العبادة، وإقامة الشعائر فيها من شأنه أن ينزع جذورالفتنة، ويؤكد التزام الدولة برعاية حقوق أبنائها دون أي تفرقة علي أساس الجنس أو العرق أوالدين؛ إن إصلاح القضية يأتي بالمصارحة والقوانين الرادعة التي تعاقب كل من يفتي بجهل أو يقتل أو يهدد حياة الآخرين. إن طاقة المصارحة والمصالحة التي ندعوا إليها سوف تعبر بنا من ذلك النفق المظلم الذي بدا موحشا حينما تغلغلت في مجتمعنا تلك الأفكار الظلامية الهدامة. إن مصر الغنية بتراثها الثقافي والحضاري مهد الرسالات حاضنة الأنبياء،والتي ساهمت إسهامات جليلة في صياغة تاريخ العالم القديم من خلال ما أحرزته من تقدم في مجال العلم والمعرفة، وما أصابته في الفنون والصناعات،تحتاج من أبنائها في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخها، أن يتحدوا ويعملوا معاً بكل جد لمحاربة مظاهر التطرف والإرهاب،وأن يتحملوا أمانة ماضيهم وحاضرهم من خلال إعلاء القيم الفاضلة، وأن يواصلوا مسيرة البناء التي بدأها الأجداد كي تتبوأ مصر مكانتها المرموقة بين الأمم والشعوب الراقية.