رحل عاشق مصر.. و»الحنين«.. و»الاشتياق« يغمران نفسه.. حنين يسري في الدماء.. ويسكن الروح.. ويعيش تحت مسام الجلد. رحل من طوع أبجدية لغات متعددة كان يجيدها.. ليكتب شعرا مغزولا علي (نول) من نوتة ألحان زمن جميل مضي لازال محفورا في قلبه وعقله ووجدانه.. متعلقا وملتصقا به في أيامه الأخيرة.. وأثناء لحظات مرضه ما قبل الموت. »أنت عمري« لأم كلثوم.. أجمل معاني الحب .. ومحمد حمام أعز أصدقائي رحل المطرب العالمي »جورج موستاكي« منذ شهرين.. وللأسف لم يذكره أحد في مصر سوي الكاتب الكبير »محمد سلماوي«. رحل موستاكي في »الجنوب الفرنسي« في مدينة »نيس« عن عمر يناهز التاسعة والسبعين.. وهو الذي كان ينوي أن يحتفل بعيد ميلاده الثمانين في مصر كما فعل من قبل في عيد ميلاده السبعين.. والذي غني فيه في القلعة وسط أصدقائه وعشاقه ومحبيه. رحل اليهودي المصري الإسكندراني الجميل.. فضاعت الألحان في بحر النغم.. وتبعثرت الكلمات نشازا مع الأحرف. في عيد ميلاده السبعين قال لي في حوار ل »أخبار النجوم« اعتدت في أعياد ميلادي السابقة أن أتلقي هدايا.. لكنني في العيد السبعين شعرت أنه واجب علي ومن حقي علي نفسي أن أهديها شيئا مميزا.. وهو حضوري لمصر للغناء في القاهرة.. والإسكندرية.. في محاولة لاسترجاع لحظات من الزمن الجميل مع أصدقاء العمر القدامي. الإسكندرية مدينتي.. العشق رغم السفر والبعاد.. شط البحر الجميل الذي لا تجده في أي مكان في العالم.. »إسكندريتي« ورائحة بحرها المميز استحقت أغنية تحمل اسمها ليغنيها موستاكي والعالم كله معه. »موستاكي« يشبه كثيرا الخواجة »نسيم« والده صاحب المكتبة الشهيرة التي كان يرتادها المشاهير والمثقفون والكثير من أهل الفن، هذه المكتبة هي التي شكلت عقل ووجدان »موستاكي« وجعلته يجيد ثلاث لغات »العربية - واليونانية - والفرنسية«. وأذكر عندما سألته ماذا تعني كل لغة له أجابني.. »العربية« هي لغة القلب والإحساس.. و»اليونانية« هي الجذور البعيدة لأجدادي أما حبي للغة »الفرنسية« فهو الذي دفعني للسفر لفرنسا لتصبح بلدي التي أعيش فيها.. والطريف أن »موستاكي«.. ظل يعيش في فرنسا لمدة ثلاثين عاما قبل أن يحصل علي الجنسية الفرنسية.. ويوم أن حصل عليها.. كان الاتحاد الأوروبي قد تم.. ولم يعد للحدود الأوروبية معني.. وإن ظلت فرنسا ولغتها هي مجال العمل والعشق للفنون التي يمارسها. والطريف أن موستاكي قال لي إنه من أشد المعجبين بشعبان عبد الرحيم.. وقال عنه إنه من أذكي المطربين في الساحة الفنية وتعجبه بشدة لعبة الانتقادات التي توجه إليه ويستفيد منها بشدة. يوم التقيت »بموستاكي« في المؤتمر الصحفي الذي عقده.. تأثرت كثيرا بلقاء خاص تم بينه وبين صديقه الراحل المطرب العظيم »محمد حمام« الذي التقي به أول مرة في فرنسا.. واستمع إليه وهو يشدو علي الطبلة أغنيته الشهيرة (يا بيوت السويس) إعجابه الشديد (بمحمد حمام) جعله يغني في أوقات الهدوء التي يخلو فيها لنفسه.. يدندن (آه يا للا لي).. (يابو العيون السود يا اللالي). في يوم المؤتمر الصحفي جاء المطرب الكبير محمد حمام رحمه الله علي مقعد متحرك لرؤية صديقه »موستاكي« الذي تأثر بشدة لرؤية صاحبه الفرعون الشامخ جالسا علي مقعد متحرك تعانق الصديقان وانهمرت دموعهما. وروي لي محمد حمام حكاية جميلة عن موستاكي وإنسانيته وتقديره للفن.. ففي أحد الأيام كان مطلوبا من موستاكي الغناء في كندا.. وطلب منه المتعهد أن يغني أغنية عربية يختارها ويغنيها.. وهي » يا عم يا جمال« لمحمد حمام.. يومها رفض موستاكي أن يشدو بتلك الأغنية.. ورفض العرض المغري الذي عرضه عليه المتعهد.. قائلا له: إن عليه أن يدعو المطرب صاحب هذه الأغنية ليمتع بها الجمهور.. وفي هذا درس لكثيرين يسرقون بدون أي إذن أغاني الغير ويحرفونها ويغنونها. جورج موستاكي اسمه الحقيقي »يوسف« أو »جوزيف« وعندما سافر إلي فرنسا كانوا يدللونه »بجو« وفي بلد النور »جو« هو اختصار »لجورج«. ولما كان موستاكي التقي »بجورج براساتز« المطرب الشهير وتعلق به وأخذه مثلا أعلي .. فقرر أن يضرب عصفوين بحجر كما يقول المثل وسمي نفسه علي اسمه »جورج«. وفي لحظة صدق قال لي موستاكي إنه كان سعيد الحظ في الصداقات.. لكن ربما ليس في الحب.. ففي العشرينات تزوج وأنجب ابنته الوحيدة والتي أنجبت له بعد ذلك حفيدة جميلة.. ليعتبر نفسه محاصرا بعالم النساء. بالتأكيد أحب »إيديث بياف« وهي أيضا أحبته.. ونتج عن ذلك أجمل الأغاني في تاريخ الأغنية الفرنسية.. لكن سرعان ما قتلت الغيرة الحب - وتحولت الصداقة إلي صراع.. وخسرت الأغنية الفرنسية ضلعين كبيرين بها. والحقيقة أن موستاكي كان بقدر كرهه للموسيقي الصاخبة (الجاز) الأمريكي إلا أنه كان عاشقا لموسيقي أمريكا اللاتينية. وما يلفت النظر أن موستاكي وفرقته يرتدون الزي الأبيض في كل حفلاتهم.. وذلك إيمانا منه بنبوءة أو رؤيا لأمرأة التقاها صدفة في إحدي المدن الأمريكية ونصحته بذلك.. لأنه بهذا اللون يتوحد مع إلهة الفن في كل الأساطير القديمة.. ربما يكون في الحكاية بعض الجنون.. لكنه جنون أعجبه كثيرا.. وظل حتي وفاته حريصا علي هذا التقليد. ومن أصعب الأمور التي مرت عليه عندما تأثرت حنجرته عام 2008 ووقف في حفلة غير قادر علي الغناء.. فكان من الجمهور أن دعاه ليحيي.. وسط تصفيقهم.. فكان أن عاد إليه صوته. أما أجمل أغاني الحب في نظر موستاكي وهو الذي تغني بالحب كثيرا فهي »إنت عمري« لأم كلثوم. انتهت رحلة »جورج موستاكي«.. الذي صحبته فيها ثالوث الحب.. والكلمة.. والنغمة.. هي رفاق الرحلة والطريق.. ولم يحدث أن خذلته قط.. ليرحل سعيدا بمشوار حياة.. كانت فيه الكلمة والنغمة.