اخبار مصر ظل أربعين عاما عاكفا فى مسجده يلقن تلاميذه العلوم الشرعية، معتقدا أن هذا الشعب الذى أنهكته البدع وأمور الشرك لا يزال يحتاج عشرات السنين حتى يصفيه شيوخ السلف وينقوه، حتى إذا جاءت اللحظة الحاسمة التى يجادل فيها أصحاب العقيدة النقية المجتمع الجاهل المبتدع، أصبح متصدراً المشهد، لا يترك منبراً إلا ليتحدث عن دفاعه عن الشريعة، حلم السنين حانت لحظته، اسمه ياسر برهامى، عمله الأساسى طبيب، لكن العيادة لا تعد مجالاً لسطوته، بل المسجد، يتحلق من حوله فيه المريدون. نجحت الثورة ووقت التمكين لم يحن بعد، والدعوة ما زالت فى مراحل التغيير الأولى فأربكت كل حساباته وتساءل: ماذا نحن فاعلون؟ شعر أنها لحظة مفصلية فى تاريخ الأمة تغرب خلالها شمس دولة وتشرق أخرى، فهل يقفون موقف المتفرج بعد أن سخّر الله لهم شبابا لم يكونوا يظنون بهم خيرا فأطاحوا بالنظام، فرفع السلفيون راية الثورة التى لم يشاركوا فيها، قرر الدفع بجماعته فى معترك الحياة السياسية وأصبحت الديمقراطية حلالاً بعد أن كانت بالأمس حراماً.. وضربت جسده نوبة من القشعريرة.. وطاف هاجس الفشل والخسران متراقصا أمام مقلتيه. حلم التمكين يلوح فى الأفق، تسود فيه رايات الله عالية خفاقة، دولة بجلاليب بيضاء ولحى مخضبة بالحناء اليمنية، وروائح المسك الحجازى تفوح فى أرجاء أرض الفراعين، يسألونه: لماذا دنست الثوب الأبيض بشرك الديمقراطية؟ التف حوله شيوخ «الدعوة» محاسبين، يقذفون رأسه بالأسئلة من كل الأركان: لماذا فرطتم فى «الشريعة» وسطرتم قبلها «المبادئ» فى كتاب الدستور؟ ألم يكن ذلك انكسارا أمام العلمانيين الأشرار؟ ارتجل خطيباً مدافعاً عن نفسه وانتفض الشيخ قائلاً: إنها الحرب، والحرب خدعة، إن تفسير «المبادئ» أفضل لنا من «كلمة الشريعة» ونجحنا فى وضع «ومصادرها» وكانت تعنى أدلة شريعتنا، فات على الأعداء المعنى، لقد نجحنا يا سادة وخدعنا القوم.. فقط «الأزاهرة» هم من فهموها لكنهم صنعوا أذناً من طين وأخرى من عجين، بعدما ألقينا لهم وفى الوريقة ذاتها ما كان يسيل لعابهم عليه: «رغبة البقاء مدى الحياة على كرسى الأزهر الشريف».. فكانت الصفقة. مرة أخرى، ينشر له فيديو خلسة يتحدث فيه عن إمكانية عزل الأزهر وتقويض الصحافة والسيطرة على مؤسسات الدولة بما فيها المحكمة الدستورية، يعتد بمكانته، يرى أن بيده مقاليد الأمور، يحرك هذا هنا، ويدفع بهذا هناك، منبره ليس للدعوة وتلقين الشريعة، بل لتوزيع المناصب السياسية والرؤى الدستورية لعضو الجمعية التأسيسية على هواه. بعد ذيوع الفيديو، وغضب مؤسسات الأزهر والقضاء والإعلام، يعود فى كلامه، يتحدث عن اجتزاء الفيديو، والرغبة فى الوقيعة، كلامه المسجل، وحديثه الطويل، يضرب بهما عرض الحائط، يقر بحدة كلامه عن القضاة، لكنه يعود طالباً ألا يدخلوا غمار السياسة، ناسياً منبره الدينى فى المسجد، متقلداً منبر السياسة.