عدت من سفرة قصيرة فوجدت كثيرا من خلق الله فى هذا البلد (بمن فيهم جنود أوفياء يخدمون فى جيش المستشارين الرئاسيين) مصدومين وملتاعين من تسريبات صحفية كشفت عن صيغة حميمة ولغة مشبوبة وحارة جدا، جرى استخدامها فى كتابة خطاب رئاسى ممهور بتوقيع فضيلة الشيخ الدكتور محمد مرسى أرسله سيادته عبر سفيره الجديد لدى الكيان الصهيونى إلى رئيس هذا الكيان، الكذاب التاريخى العجوز (ذلك هو لقبه الشائع فى أوساط النخبة الإسرائيلية) شيمون بيريز. المصدومون الملتاعون هؤلاء، لاحظت أن أغلبهم توقف مروعا وحزينا أمام الوصف الذى أسبغه فضيلة المرسى على المجرم بيريز مرتين فى الخطاب (هل تذكرون برقية التهنئة؟) أولاهما فى مطلع السطور عندما ناداه ب«الصديق العظيم»، والثانية فى الخاتمة حيث أضحى هذا العدو اللدود، ليس فقط صديقا عظيما لرئيسنا، بل أيضا وكذلك «صديقا وفيا» لفضيلته! وهناك بعيدا فى بلاد الإنجليز قول مأثور يقطر بالحكمة، إذ يذكر الناس بأن «الكذب يزدهر ويكثر عادة فى ثلاث مناسبات، الأولى فى زمن الحرب، والثانية فى زمن الانتخابات، والثالثة عندما يعود بعضهم من رحلة صيد فاشلة».. هذه الحكمة لها علاقة وثيقة بحادثة هذا الخطاب الفضيحة الذى لا أراه ولا أعتبره (كما كثير من المصدومين المتحمسين) دليلا يثبت أية خيانة أو انحراف شائن عن المصلحة الوطنية، وإنما أصنف الفضيحة تلك ضمن تجليات وإشارات، لا أول لها ولا آخر، تؤكد كلها أن سكان هذا الوطن يكابدون حاليا واحدة من أكبر وأخطر حوادث «الكذب» فى التاريخ! وربما يشطح خيالك فتظن أننى أقصد بحادثة الكذب هنا مجرد أن رئيسنا تطوع بوصف المجرم الكذاب شيمون بيريز بأنه صديق لفضيلته، وأنه «عظيم ووفى»، استنادا إلى أن هذا الوصف ليس شائنا فحسب، وإنما أيضا خرافى وغير معقول، فكيف ومتى وأين نسج الاثنان (مرسى وبيريز) علاقة رفاقة توطدت وتطورت بالزمن حتى صارت صداقة عميقة كشفت عن مكنونات الوفاء والعظمة؟! طبعا العبد لله لا يقصد تصغير شأن هذه الكذبة والنظر إليها باعتبارها مجرد ادعاء لفظى غير حقيقى يظل، رغم سوئه وتجريحه الفظ لمشاعرنا الوطنية، أهون وأقل ضررا وخطرا بكثير من الكذبة الأكبر والأعظم.. قصدى أن «حادثة الخطاب» تفضح للمرة المئة على الأقل حقيقة أن فضيلة المرسى و«جماعته» دخلوا قصور الحكم واعتلوا مقاعدها الوثيرة ومسكوا بأياديهم المتوضئة كل السلطات فى البلد، بينما هم لا يملكون من حطام الدنيا أية رؤية ولا برامج ولا خيارات أو سياسات (فى الداخل والخارج ومع العدو والصديق) سوى تلك الخيارات والسياسات الكارثية البائسة نفسها التى كان يتبعها ويلتزم بها نظام المخلوع أفندى وولده وعصابته، ولهذا يبدو من تصرفاتهم الارتجالية ومواقفهم العشوائية وتخبطهم شمالا وجنوبا وفى كل اتجاه، كالعائد من رحلة صيد خالى الوفاض إلا من خيبته الثقيلة فيلوذ بكذب مضحك ويقول أى كلام والسلام. باختصار، الكذبة التى تستحق الاهتمام والغضب هى ادعاء الست «جماعتنا» وذراعها الرئاسية، أنهم ثورجيون جدا ويؤمنون بأهداف الحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية والوطنية، لكنهم فى الحقيقة ليسوا إلا «جماعة يمين متطرف» تكره وتعادى بشدة حريات وحقوق الناس، وليس لديها للتعامل مع العالم والدنيا خارج الحدود إلا شعارات فارغة وزجليات ركيكة تعبانة، ربما تصلح أغانى هابطة، غير أنها لا تُسعد صديقا ولا ترعب أو تخيف عدوا، وإنما بالعكس، تطمئنه تماما وتجعله ينام على أرضنا السليبة ومقدساتنا المسروقة قرير العين ومرتاح البال ومتهنى.. وصباح الخير بالليل.