لدينا كارثة كبرى تسيطر على العقل السياسى المصرى هذه الأيام وهى «إخضاع موضوعية الخبر إلى هوى الموقف السياسى المسبق». التفاصيل المجردة للحقيقة فى بلادنا شىء، ومحاولة تلوينها شىء آخر! ولعل النموذج الكلاسيكى الأخير الذى يمكن أن ندرسه فى كليات وأكاديميات الإعلام هو «التفسيرات العبقرية» التى صدرت فور قيام اللواء رأفت شحاتة بحلف اليمين أمام رئيس الجمهورية، كأول رئيس مخابرات مصرى يقوم بأداء هذا القسم بشكل علنى وإعلامى. وجاءت التفسيرات لهذا الحدث منصبة على النقاط التالية: 1 - إن القسم طويل وغير تقليدى ويختلف عن قسم الوزير أو المحافظ. 2 - إن القسم لم يكن برفع اليد، ولكن بوضع اليد على المصحف، مما يعنى أنه «قسم دينى»، وبالتالى فهى الخطوة الأولى «لأخونة» جهاز المخابرات العامة. 3 - إن القسم يحتوى فى نصوصه على تأكيد أن الولاء ليس فقط للوطن والشعب، ولكن أيضا -وبشكل محدد- لرئيس الجمهورية، مما قد يشير إلى أن «رئيس المخابرات» بهذا المفهوم «تابع تماماً فى الولاء لهذا الرئيس». تلك كانت الملاحظات، وحاولت الفترة الماضية أن أتأكد من صحتها، وأن أقوم «بواجبى المدرسى» فى المذاكرة الصحفية والتأكد من دقتها لأنها إن صحت تصبح كارثة سياسية، وإن كانت غير ذلك فإنه لا بد من التنويه وذكر الحقائق للرأى العام. وتلك هى المعلومات الدقيقة المجردة التى حصلت عليها: 1- القسم الخاص بالمخابرات كما أداه اللواء رأفت شحاتة، هو ذات القسم الذى أداه كل رئيس لجهاز المخابرات منذ مايو 1971 بالنص والحرف. 2- إن قسم رئيس المخابرات يخالف كل نصوص ما يقسم به أو عليه أى مسئول فى الدولة المصرية، لأن قانون المخابرات العامة الصادر عن البرلمان المصرى عام 1971 المعروف باسم «القانون مائة» ينص حرفياً على هذا النص. 3 - «القانون مائة» صدر بعد لجنة تقصى الحقائق التى كونها الرئيس الراحل أنور السادات عقب ضلوع أو اتهام السيد أحمد كامل رئيس المخابرات المصرية الأسبق عام 1971 فيما عرف بمؤامرة «مايو ضد الرئيس». وفى تلك الفترة أوصى خبراء القانون وأوصت تلك اللجنة بأن يكون هناك قسم خاص لكل من يعمل فى جهاز المخابرات يحدد أن الولاء للشعب والوطن ومصالحه وأيضا لرئيس الجمهورية، حيث «لا يجوز أن يخفى المرؤوس المعلومات عن رئيسه». 4 - هنا لا بد من التأكيد على أن رئيس المخابرات العامة، وفق القانون مائة ووفق الدستور ووفق العرف السياسى السائد، يعيّنه رئيس الجمهورية، وأيضا له سلطة إعفائه دون الرجوع لأى جهة. وأن رئيس الجمهورية هو «الرئيس المباشر الوحيد» لرئيس جهاز المخابرات العامة، وهو بنص القانون «الموجه العام الذى يرسم سياسة الجهاز». وفى بريطانيا مثلاً، وهى من قمم الديمقراطيات المستقرة، فإن رئيس المخابرات البريطانية يؤدى قسم الولاء بشكل سياسى ودينى للشعب والدولة ولجلالة الملكة، ويأتى ترتيب الملكة فى القسم هو الأول. 5 - القسم الذى ألقاه اللواء رأفت شحاتة هو بالنص ذات القسم الذى يتعين أن يؤديه أى فرد من أفراد جهاز المخابرات قبل مباشرة وظيفته رسمياً. 6 - بالعودة إلى المادة 36 من قانون المخابرات، فإنه يحق لرئيس الجمهورية تحديد صيغة القسم للعاملين بالجهاز. ولمن لا يعرف فإن هذا النص هو الذى يقسم عليه العسكريون فى الكلية الحربية. أما مسألة المصحف، فهى من قبيل «العهد الدينى» الذى يلتزم به فرد المخابرات، لأنه لا يجوز أن يكون المسئول عن الأمن القومى للبلاد متآمراً على الوطن أو الرئيس. 7 - الولاء للرئيس هو للصفة الدستورية والشرعية التى يمثلها وليس لرئيس بشخصه، وإنما لسلطة الرئاسة التى تعلو الجهاز التنفيذى والسياسى للبلاد. آخر مسألة: ولو كان فرد المخابرات مسيحياً فماذا يفعل؟ الإجابة البسيطة التى لا تحتاج لأى ذكاء «يقسم على الإنجيل»!! المسألة ليست «أخونة» ولكن «غبونة» أى غباء سياسى على الذين يخلطون بين الرأى والحقيقة!