(1) أسباب متعددة جعلت ألمانيا التى بدأت فيها حركة الإصلاح الدينى تتأخر عن التطور الأوروبى التالى لعصر التنوير. ليس لفقر فى الفلسفة، بالعكس، الفلسفة والموسيقى ازدهرتا جدا فى ألمانيا، لكن المشكلة أنهما ارتبطتا بالأرستقراطية الألمانية وليس بطبقة واسعة من المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى. الملك فريدريك العظيم اعتبر نفسه حامل لواء التنوير. هذا جيد، لكن التنوير حين يبدأ وينتهى بين «علية القوم» لا يجدى. تعرفين أن الموسيقار الألمانى العظيم بيتهوفن كتب السيمفونية الثالثة، «البطل» بإهداء لنابليون، ثم غير الاسم إلى «البطولة» حين خذله نابليون وأعلن نفسه إمبراطورا سنة 1804، بعد 15 سنة فقط من الثورة الفرنسية. أذكر هذه الواقعة لكى أنقل لك مدى توق الألمان فى هذه الفترة لأن يلحقوا بنظرائهم البريطانيين والفرنسيين فى ركب الإصلاح. لكن «فلاحى أوروبا الغربية» -هكذا يُسَمِّى الأوروبيون الألمان- وصلوا أيضا إلى الصناعة والتحديث. متأخرين كما أسلفت، لكنهم وصلوا. وإذ وصلوا فقد قطعوا المراحل بسرعة فائقة، فانتقل ملايين الفلاحين من القرى إلى المدن فى جيل واحد. حركة هجرة داخلية لم تشهد لها أوروبا مثيلا، بالأرقام الإحصائية. انتقل هؤلاء من دفء العائلة القروية، إلى حيادية العيش المدينى. وجدوا أنفسهم مرة واحدة وقد انقلعوا من طراوة الطمى وانزرعوا فى قسوة الأسفلت. وليت الأمر توقف على جفاء هذا المحيط فقط، بل كانت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) على الأبواب، حرب هى الأخرى غير مسبوقة فى التاريخ البشرى من حيث دمويتها، والأنكى من ذلك أنهم هُزموا، وخضعوا لشروط استسلام مهينة. فى هذه الظروف وفرت الحركة النازية بشعاراتها بيئة ملائمة ل«محدثى التَعلُّم» ومهمشى المدن، شعارات تعدهم بالنصر، وتبهرهم بالنظام والاستعلاء.. والبقية تعرفينها. (2) أشرت إلى روسيا الشيوعية فى مقال أمس، والآن أشير إلى ألمانيا. والدولة الثالثة التى مرت بظروف «اجتماعية» مشابهة فى عصر الثورة الصناعية كانت إيطاليا. وقد تعمدت أن أضرب هذه الأمثلة عن «الوعكات» فى أثناء النهضة الأوروبية، لكى أصل إلى مصر. مبتدأ الغرض ومنتهاه فى كل ما كتبت عن الأميين منذ قصة آدم وحواء إلى اليوم. الكتائب الإخوانية التى أسسها حسن البنا سنة 1937 كان شعارها: «العمل، الطاعة، الصمت»، وهو اقتباس بتصرف من الكتائب الفاشية التى كان شعارها: «العقيدة، الطاعة، القتال». فكرة النشاط السياسى المقترن بالعقيدة، الزعامة «الحزبية» الجامعة بين السياسية والروحية، التى اتباعها عقيدة، ومخالفتها خيانة، كانت فكرة الحزب النازى فى ألمانيا. كذلك كانت فكرة كتائب الشبيبة. ولقد نقلها أيضا حسن البنا عن النازيين (القمصان البنية) والفاشيين (القمصان السوداء). وتبناها حزب مصر الفتاة (القمصان الخضراء)، تحت قيادة زعيمه أحمد حسين، أحد رموز الشعبوية السياسية فى مصر. كشرى السياسة الذى يجمع العلمانية على الإسلامجية على العروبية على الاشتراكية على البطيخ، ساعيا إلى إرضاء كل «المجاميع» (للأسف هذا ما ورثه اليسار، الجناح الشعبوى، فى مصر). (3) فى مصر أيضا، أدت حركة التحديث فى القرن الماضى إلى هجرة ملايين من القرى إلى المدن، فى حركة هجرة عشوائية، أخذت الضوء الأخضر من الساسة الشعبويين. حمل هؤلاء معهم معارف الأميين، وتركوا بساطة الأمية وطيبتها. حملوا طريقة الأميين فى تلقى المعارف بالتلقين، وفى التقديس المبالغ فيه للأب/المرشد/الحاكم، وتركوا تواضع الأميين فى ادعاء المعرفة. صار لدينا فذلكة المتعلمين ولكن بمعارف الأميين. ويا له من خليط، نتيجته جماعة الإخوان المسلمين، والعسكر السابقون لهم. «محدثو التعلم»، المتحذلقون، الطامحون إلى أكثر مما تسمح به مواهبهم، الشاكُون من انغلاق الأبواب فى وجوههم «بلا وجه حق»، المسارعون إلى قيم القرية يحتمون بها من المدينة، إلى جماهير الأميين تقدرهم بدلا من جماهير المتعلمين التى «لم تعطهم حقهم». المصرون على أن نمط حياتهم أفضل من كل ما طرأ على العالم. فماذا قدم هؤلاء للعالم لكى يقنعوا غيرهم بأنهم أفضل؟! لقد مثل هذا السؤال مشكلة دائمة للأميين وتجلياتهم السياسية. ماذا يُفَضِّلهم عنك وعنى وعنه؟! هذا أهله من قرية فى الصعيد الجوانى، جده رجل أمى بنى نفسه بنفسه وصنفته ثورة العسكر من «الرأسمالية الوطنية»، أبوه مسمى على اسم جد له مات فى حفر قناة السويس، أمه وأبوه أول جيل من الجامعيين فى عائلتيهما. مجرد أناس مصريين عاديين، وليسوا نبتا شيطانيا. كيف يمكن أن يميزوا أنفسهم عنا؟ بلا شىء، إلا ما لا يستطيع أحدٌ الحسمَ بشأنه. فيدعون أنهم أفضل منا عقيدة، أو أننا أقل وطنية لأننا ننظر إلى الخارج ونتعلم منه. أو أن طريقة حياتنا «منحلة». جربيهم فى الفن، فى الأدب، فى المسرح، فى الموسيقى، اطلبى منهم أن يكتبوا كتابا أو ينتجوا عملا ملموسا، وشاهدى النتيجة. ضحالة الموهبة، وقلة الإبداع، وفقر الرؤية. اطلعى على صحيفة «الحرية والعدالة» وأخبرينى ماذا تختلف عن إعلام نظام العسكر. حتى أخلاقهم، يا غلبى، بانت رداءتها إذ خرجت إلى الحيز العام. لقد صاروا مستحقين للشفقة. ارتديتم ثوب ادعاءاتكم، وهو ثوب واسع تبدون فيه مضحكين. افهمى إذن لماذا يريحون أنفسهم بتحريم الفن، والموسيقى، وتجريم الأدب. بل افهمى لماذا يكيلون الشتائم والانتقادات للغرب حتى وهم يلهثون لكى يعيشوا فيه، ويحصلوا على منحة دراسية فيه. حتى وهم يدركون الفرق الشاسع بين حياته وحياتنا، بين القرن ال21 والقرن ال8.. إنهم يصرون لذلك السبب نفسه على أن الحياة فى القرن ال8 كانت أفضل. كلها حيل نفسية يعرفها من عنده أدنى دراية بعلم النفس وعلم النفس المرضى. فيا من لا تبدعون فى شىء إلا القتال والاغتيال، اعلموا أننا حين رأيناكم تسعدون بقهر الآخرين، وتحسبون الاستبداد نصرا، قررنا أن ننغِّص عليكم قهرَكم لنا، فلا نجعله سهلا مريحا، ولا نظهر فى قهرنا بمنظر الجبناء. قررنا أن نسجل شهاداتنا فى التاريخ قبل أن تتمكنوا منا تمام التمكن. نعرف أن هذا غرضكم. أنكم ستقطعون كل شجرة لا تنالون ثمارها. نعرف لأننا نقرأ ما تقولونه بعيدا عن الكاميرات. ونعرف، أيضا، من الدستور المخجل، الأمى، الجاهل، التافه، المتخلف، المعوِّق، الذى تكتبونه. من أجل هذا كتبت سلسلة الأميين. مساهمة ضئيلة فى رد الجميل إلى الشعب الذى أنا منه، والبلد التى أنا منها. لكى نقول لأبنائنا إن عشنا إننا لم نكن جبناء، وإن لأى سبب انقطعت سبل الحوار مع الأبناء فقولى لهم هذا. لن نطلب منك أكثر من المودة فى الذكرى، وأن لا تستهينى بخطر «الجهل المقدس». لقد حول بناة الأهرامات إلى بناة عشوائيات. فقط تذكرى هذا: التنوير منهج تفكير، حرية نقد وتقويم، فى ظل ديمقراطية/مساواة. ما بعد ذلك من رخاء اقتصادى أو منجزات علمية مجرد نتيجة.