انتهينا.. خلاص.. الثورة اتسرقت، فشلت! سمعتُ هذه الأحكام النهائية مع كل انتقال من مرحلة إلى مرحلة. سمعتها عندما بدا أن العسكر يملكون كل المفاتيح، ينعمون باستقرار السلطة فى قبضتهم، وكان هذا يتبعه تحليل بأن 25 يناير لم تكن ثورة، لكنها غطاء مدنى لانقلاب عسكرى ناعم. أسمع الآن هذه الأحكام عن سرقة الثورة أو فشلها، وبعد وصول رئيس إخوانى إلى القصر الكبير، والتحليل يذهب إلى نتيجة واحدة: ركوب الجماعة على جسد الثورة لتحقيق خطة «أخونة الدولة». وهذا عكس ما أرى إلى حد كبير، ليس هذا تفاؤلا، ولا محاولة لنشر الأمل وإنكار اليأس، لأننى أولا لا أرى السياسة من منطق التفاؤل والتشاؤم، وثانيا لا أعتقد أننا فى لحظة يحكمها الأمل وحده، وثالثا أنه بعد مفاجأة 25 يناير لم يعد من الممكن التعامل مع السياسة على أنها أقدار تهبط من أعلى، أو على أنها قيد التفكير بمسلمات مطلقة من نوعية «سيحدث هذا» أو أن «المصريين غير قادرين على فعل كذا».. هذه المسلمات أصبحت أوهامًا الآن، ومن يجرنا إلى إعادة السياسة كلعبة أقدار بين آلهة وكهنة مختفين خلف ستارة سوداء فإنه يقودنا، بحسن نية أو بأغراض أخرى، للعودة إلى المربع صفر، أى إلى اللحظة التى كان المجتمع فيها غائبًا فى مقاعد المتفرجين ينتظر نتيجة صراع الأقدار. ربما تكون طبيعة السلطة أو تركيبة الدولة لم تتغير، تلبية لحجم التوقعات بعد ثورة سلمية، انتصرت فيها إرادة الثوار بأياديهم العارية. السلطة لم تتغير لكن المجتمع تغير، لم تنته بعد مشاعر الاهتمام بالسياسة وبكل ما يحدث فى البلاد، اهتماما عموميا يشمل قطاعات واسعة لا تقتصر على السياسيين أو النشطاء الذين كانوا وحدهم فى مواجهة السلطة على مسرح السياسة. مسرح السياسة الآن اتسع ليشمل قطاعات كانت غائبة وستجد من يسأل دائما عن معنى ما يحدث أو عن المستقبل بعدما كان المستقبل فى يد السلطة، والفرد العادى لا ينشغل بغير إنقاذ نفسه من الدوامة. هذه «قوة المجتمع» التى أضيفت بعد الثورة إلى معادلة السلطة، وهى قوة ليست عابرة ولا يمكن عدُّها فى إطار جمهور المتفرجين، لكنها قطاعات مجتمع تراقب لأول مرة ما يحدث فى السياسة، وتعرف أنها هى التى يمكنها أن تختار رئيسًا أو تغير حكومة، يمكنها أن تختار وتدفع ثمن الاختيار. التغيير هنا ليس بسيطًا ولم يكن من الممكن حدوثه بكل برامج الإصلاح.. إنه تغيير ثورى.. راديكالى يغير صلب دولة ما بعد يوليو 1952. وهذا سر الأزمة بين طموحات الثورة الكبيرة التى تسعى إلى نظام ديمقراطى، يفتح أبواب الحريات المغلقة ويبنى دولة تقبل التعدد السياسى والثقافى والدينى، وهى أفكار لم يتم تنظيم المؤمنين بها أو المخلصين لها. هذه هى الأفكار التى أعلت أسهم المرسى عندما رفعها فى المرحلة التالية وجعلته يتفوق على شفيق، وهى الأفكار التى شحنت المرسى فى صراعه مع المشير وجناحه فى الجيش، وخلخلت أسطورة النواة الصلبة، والجيش الذى يتحكم ويريد أن يحكم، هذه هى الأفكار وجمهورها الذى دخل دائرة المجال السياسى باهتمام ورغبة فى أن لا يكون اليوم مثل الأمس. تبدو إذن مشاعر اليأس أو الشعور بأن الثورة فشلت فى وصول تيار إصلاحى محافظ إلى السلطة، وهو ما يجعل إمكانية إعادة بناء النظام القديم أو تجديده أو ضخ شحنات رستْ بين شقوقه واردة، والإشارات الأولى تؤيد هذه التخوفات، بداية من استسهال الحلول التى كانت هى المشكلات الأساسية مثل القروض والطوارئ، وانتهاء بمحاولة تجديد شبكة الرأسمالية القديمة بأسماء جديدة لتدور ماكينة الاقتصاد نفس دورتها البعيدة عن العدالة الاجتماعية. لكن هذا ليس أخونة للدولة. لكنه محاولة من الإخوان لملء حطام الدولة التى تركها مبارك والمافيا المتحلقة حول قصره. إنها دخول الإخوان فى جسد الدولة أو محاولتهم لملء الفراغ الكبير. ولأنهم لا يمتلكون كوادر ولا رؤية مختلفة للدولة، لا شىء تقريبا سوى شحنات عاطفية عن استعادة زمن الخلافة الجميل أو أستاذية العالم، وهذه ليست إلا شحنات للاستهلاك المحلى مع جمهور ينتظر معجزة المرشد المنتظر