قبل سيرة خالد الذكر الخواجة ديليسيبس لا بد من إجابة سؤال مهم: هل آن أوان تحقيق ما حلمت وتمنيت وكتبت عنه من مشروعات لإنقاذ البشر والأرض والزرع والمياه والحيوان من التدمير من مخططات إبادة الجماعة المصرية التى ظل يمارسها النظام الساقط طوال ثلاثين عاما؟! من خلال مئات المقالات وطوال أكثر من عشر سنوات واصلت الكشف عن المخطط الجهنمى، محذرة من الوصول إلى ما وصلنا إليه الآن من انفجار للفقر والجهل والأمراض وما يترتب على التبعية الغذائية واستيراد النسب الأكبر من مواردنا الغذائية الأساسية وتأثيراتها الخطيرة على الأمن القومى والحيوى والاستقرار والاستقلال.. الأمل فى تحويل حصيلة ما كتبت ووثَّقت وأقمت الأدلة العلمية على إمكانات الإنقاذ المتوافرة كان من أهم دوافعى للمشاركة فى الفريق الاستشارى، أعترف أننى لم أفقد الأمل أبدا فى أن ما عجزت عن تحقيقه فى ظل النظام السابق سيتحقق فى يوم من الأيام، كيف؟! لم أكن أملك إجابة ولم يصل الطموح إلى ثورة عبقرية بحجم ثورة 25 يناير، رغم أننى مع غيرى من كتيبة من الكتّاب الوطنيين لم نتوقف عن التحذير من انفجار شعبى قادم إذا لم يسترد المصريون كل المضيَّع والمهدَر من حقوقهم الأصيلة فى العدالة والمواطنة والكرامة والحريات.. ورغم جميع الشواهد السلبية وعناصر اليأس التى زرعها النظام السابق فى المصريين والقهر والاستبداد الأمنى والترويع لم يتوقف اليقين الذى امتلأت به مقالاتى، ولخصته دائما فى هذه العبارة.. «إننا شعب يكمن ولا يموت أبدا». وحدثت المعجزة أو الثورة وكان الشباب طليعتها ووقودها الحقيقى، لذلك يبدو غياب هذا الشباب عن تشكيل الفريق الرئاسى نقطة ضعف أساسية فى التشكيل، كغياب كثير من الخبرات العلمية المتخصصة رغم القاعدة التى تمتلئ بها مراكز أبحاثنا وجامعاتنا، ورغم ما يمثله التفوق العلمى فى سباق التقدم والتطور، وبما يفرض أن يتسع التشكيل ليضم مجموعة من شباب الثوار والقامات العلمية وأن تتوازن التيارات الفكرية والوطنية فى المشاركة لتحقيق أحد البنود الستة التى انعقد حولها عقد الشراكة بين الرئيس محمد مرسى والجبهة الوطنية من عدم استئثار وانفراد الحزب الفائز بالسلطة، ولا يبرر أحد أو يهوِّن من الاستئثار والإقصاء بأنه فى أغلب الدول الديمقراطية من حق الحزب الفائز أن يخوض تجربة الحكم، معتمدا على كوادره وحدها. لا ينطبق الأمر على الحالة المصرية بعد ثورة مثل ثورة 25 يناير، فليس باستطاعة حزب أو جماعة أو تيار أن يقترب من موقع من مواقع السلطة إلا بجواز مرور من الثورة التى شارك فيها الملايين. أظن أن معهد «جالوب» -وَفْق إحصاءات خاصة به- قال إنه يتجاوز 6 ملايين مصرى دخلوا وخرجوا من ميدان التحرير خلال ال18 يوما من أيام الثورة الأولى وبأغلب قواهم وتياراتهم السياسية، وغير السياسية، وبينهم الإخوان جاؤوا إلى مقاعد الحكم على أجنحة الثورة، مما يجعل الشراكة مع جميع صناع وشركاء الثورة أوجب ضمانات السلامة لإدارة المرحلة. الطموحات وآمال الإنقاذ بلا حدود.. وبطول أعمار وعمق آلام ملايين من المصريين حرموا من أبسط حقوق ومقومات الحياة وبقيمة إمكانات وطن بحجم مصر، لذلك لن تتوقف المشاركة عند ملفات الاكتفاء الذاتى والعدالة الاجتماعية، فهناك ملف حرية الصحافة والرأى وما يترسب الآن من داخل اللجنة التأسيسية من اتجاهات غير مطمئنة يراد الأخذ بها، وأعيد لفت أنظار الجماعة الصحفية إليها ومدى حقيقة ما نشر عن مقترحات للنص ولأول مرة فى دستور مصرى على الحبس فى جرائم النشر والتوسع فى هذه الجريمة لدرجات تتجاوز قانون العقوبات وأن النص المقترح فى الدستور بعد الحبس فى قضايا السب والقذف وبعد وقف وتعطيل الصحف بغير الطريق الإدارى، رغم إلغائها فى القانون باعتبارها من العقوبات الجماعية التى تعاقب من لا ذنب لهم. يصل التحذير من القيود التى يمكن أن يضمها الدستور الجديد بشأن الحريات إلى ما يقولون بأنه يهدد بأن يكون قانون العقوبات أرقى من دستور الثورة، نتيجة ما فيه من تراجع فى مجال الحقوق والحريات العامة! أيضا لا يقل خطورة عن ملف الحريات ملف الفتنة الطائفية وحصاد ما زرع طوال السنوات الماضية من تمزيق للنسيج الوطنى وضرورة صدور قوانين تجرّم تهجير مواطنين مصريين من مدنهم وقراهم وتوفير ضمانات سيادة واستقرار كل مصرى وارتباط هذا الملف بالتحديد بالمحافظين وبتحرير وتطهير المحليات، أكبر معاقل الفساد وذيول وأذرع النظام القديم، وأن يعهد بالقيادة هناك إلى عناصر جديدة، خصوصا من ينتمون إلى الثورة ومن الكوادر النسائية والشبابية لتتحول المحليات من معامل تفريخ للتخلف والفساد إلى معامل إعداد وتصنيع لأجيال جديدة من القيادات، وكما تُنسف فى الإعلانات الحمامات القديمة يجب أن ينسف النظام الأمنى الذى أكمل على المحليات بإدارة محافظين فاشلين، وأن يكونوا قيادات وطنية ومن أبناء محافظاتهم ويمثلون مصر كلها، لا الجماعة وحدها. قرأت عنوان الخبر الذى نشرته جريدة «الشروق» على صفحتها الأولى 27 أغسطس الحالى، وصعب علىَّ فى البداية تصديقه، الخبر يقول: «ديليسيبس يثير أزمة بعد 56 عاما من إسقاطه.. مثقفو بورسعيد يهددون بنسف التمثال إذا تمت إعادته إلى مدخل قناة السويس» ما فهمته من الخبر أن الفكرة طرحها وزير الدولة لشؤون الآثار محمد إبراهيم، وأن الجماعة الثقافية البورسعيدية تحركت لرفض رغبة الوزير التى أفصح عنها خلال زيارته لبورسعيد قبل يومين وأن حركة «نحن هنا» الأدبية برئاسة الأديب قاسم عليوة أصدرت بيانا عاجلا رفضت فيه إعادة رفع التمثال! والحقيقة أننى لم أفهم دوافع الوزير وسر التوقيت المدهش، وكأنه انتهى من حل مشكلات آثار مصر المتراكمة طوال سنوات حكم النظام البائد.. إن لم تخنِّى الذاكرة فخلال الأسبوع الماضى كادت حرائق تتهدد معبد الكرنك ونُشرت صور مؤسفة وموجعة عن تلال القمامة وسط أعظم آثارنا الفرعونية والإسلامية، ولم يتبق إلا أن إنقاذ ديليسيبس ورفعه على مدخل القناة يشير إلى المجد الذى صنعه باعتباره هو الذى حفرها ومات عليها وليس العمال والفلاحين المصريين الذين مات منهم وفق إحصائيات، من المؤكد أنها ليست دقيقة وأن أعدادهم تتجاوز الرقم المسجل (120 ألفا) منهم ما يزيد على المليون ونصف المليون من جميع أقاليم مصر! يعرف الوزير أو لا يعرف أن أبناء بورسعيد يعتبرون إسقاط قوات المقاومة الشعبية للتمثال من فوق قاعدته رمز من رموز انتصار بلدهم بالنيابة عن مصر كلها عقب العدوان الثلاثى على مدينتهم 1956 الذى أرادت به الجيوش الثلاثة المعتدية البريطانية والفرنسية والصهيونية بقواتها البرية والبحرية والجوية احتلال بورسعيد واعتبارها معبرا لإعادة احتلال مصر، فدكت وهزمت المقاومة الشعبية هذه القوات وأجبرتها على الانسحاب، وكان إسقاط التمثال من أهم رموز انتصار مصر وإرادة شعبها ومقاومة أبنائه، ومع ذلك لم تتوقف محاولات سخيفة وغير مفهومة لإعادته إلى مدخل القناة.. لم يطالب أبناء بورسعيد بنسف التمثال ولكن بوضعه فى أحد متاحف المدينة سواء الحربية أو القومية على أن يُوضع فى مدخل القناة رمزا لمن حفروا وجرت دماؤهم فى مجراها قبل أن تجرى وتلتقى مياه البحرين تمثالٌ لواحد من 60 ألف عامل كانت الحكومة المصرية تخصصهم شهريا لحفر القناة فى وقت كان تعداد مصر فيه 4 ملايين نسمة ظلوا يعملون من عام 1859 حتى 1863 فى أقسى وأقصى درجات الحرارة، وبلا مياه ويدفعون أجرهم اليومى فى شربة واحدة أو اثنتين تأتى بها قوافل المياه التى ينتظرونها بالأيام، بينما ديليسيبس ينعم بخيرات أولياء النعم وبفرمانات الامتياز التى استخفّت وأهانت حقوق المصريين ولا تتسع المساحة لأمثلة مما تضمنت! لا يصلح التوقيت المدهش والغريب لإثارة قضية ميتة امتلأت بالمساس بكرامة المصريين وبحقوقهم إلا أن يكون الخواجة ديليسيبس استشهد فى ثورة 25 يناير.