نشر الدكتور محمد عمارة فى بداية السبعينيات أعمال رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين وعلى عبد الرازق.. وغيرها مما يعرف بتراث التنوير. هذا الوقت كان أول خيوط الانتقال من شعبية خطاب القومية العربية الذى روجت له أجهزة الدعاية فى دول الجنرالات. كان الموديل القومى فى عز صعوده يحتاج إلى شعرة من اليسار.. فظهر اختراع: الاشتراكية العربية. وإلى شعرة أخرى من اليمين فظهرت: العروبة والإسلام، ومع كل شعرة كان لا بد من ركاب الموجات و«ترزية» أفكار يلفقون، ويرقعون، ويخرجون بالموديل على ذوق الجنرال الحاكم، لكن بعد هزيمة يونيو 1967 انحسرت نجومية الجنرالات، وأصيب الموديل القومجى بمقتل. وكنوع من رد الفعل بحث الشطار عن دواء للجروح القومية فى الإسلام. كان الزمن مفتوحًا والهزيمة لم تتمكن بعد من العقول والأرواح. البداية كانت مع اكتشاف ما يسمى التراث العقلانى المستنير فى الفكر الإسلامى. ولهذا لم يكن غريبًا أن ينشر الدكتور محمد عمارة كتاب على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» أولا فى مجلة «الطليعة» عام1971. وهى مجلة اقتطعها النظام الناصرى من جسد مؤسسته العاتية «الأهرام» ليستوعب اليسار. ثم ينشره كاملا (1972) مع دراسة وافية للظروف والملابسات التى أحاطت بنشره عام 1925 مزودًا بالوثائق الأساسية.. وذلك فى «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» فى بيروت. وهى مؤسسة ذات هوى قومى كما يبدو من اسمها وقائمة إصداراتها. كانت كل التيارات القريبة من مطبخ النظام الناصرى تشعر بالهزيمة، لكنها تبحث عن أفكار ذات جاذبية للجمهور الواسع. النظام عثر فى حكاية ظهور العذراء فى كنيسة الزيتون (1968) على مبتغاه، والسياسيون حاولوا إثبات «إسلامية» أفكارهم أو تمرير بضاعتهم بغلاف عليه شعارات «إسلامية». هكذا احتفى محمد عمارة بكتاب على عبد الرازق على أساس أنه: «امتداد متطور للشيخ محمد عبده فى الإصلاح الدينى، بل إن آراءه فى موضوع الخلافة كانت فى عدد من نقاطها الجوهرية، وليس فى كلها، تفصيل وبلورة وتطوير لآراء الأستاذ الإمام فى ذات الموضوع»، والمعروف أن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» كان ضربة لأحلام الملك أحمد فؤاد فى اقتناص «الخلافة» بعد نجاح ثورة كمال أتاتورك عام 1924 فى إقصاء السلطان عبد الحميد. كتاب على عبد الرازق أثار الملك فؤاد، لأنه ينفى مبدأ وجود الخلافة فى تاريخ الإسلام، بينما الملك يقيم مؤتمرًا إسلاميًًا عالميًا للخلافة ويصدر مجلة ويكوِّن خلايا شعبية فى الريف المصرى لتنظيم هذه الدعوة. الشيخ على عبد الرازق يختم كتابه قائلا: «وتلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين فأضلوهم عن الهدى وعموا عليهم وجوه الحق وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم وأذلوهم وحرَّموا عليهم النظر فى علوم السياسة.. وباسم الدين أيضا خدعوهم وضيقوا عقولهم.. فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعا». أى أن الشيخ كان ضد «أحلام» السلطان، والسلطان عثر على مشايخ عاقبوا الشيخ المتمرد. ومحمد عمارة فى 1972 كان فى صف على عبد الرازق... ويقول إن دافعه فى إعادة نشر الكتاب هو أن «نصل الحاضر الذى نعيشه والمستقبل المأمول بأكثر هذه الصفات إشراقًا وأعظمها غنى، ونتعلم الشىء الكثير من شجاعة هؤلاء الذين اجتهدوا وقالوا ما كانوا يعتقدونه صوابًا، هذا الذى قالوه خطأ دونما رهبة من الذات المصونة التى تربعت على العرش فى بلادنا قبل يوليو 1952». ماذا حدث لكى يتراجع محمد عمارة نفسه بعد 22 عامًا عن رأيه الإيجابى فى الكتاب؟! ليس هذا فقط، بل إنه وجه إلى الكتاب ومؤلفه قذائف الاتهامات، وقال فى مقالاته بصحيفة «الشعب» عام 1994 إن الكتاب يخدم أهداف الاستعمار الغربى فى محاولته للقضاء على الخلافة سعيًا إلى «علْمنة» (المجتمعات الإسلامية) والحقيقة هى العكس طبعًا فقد كان هناك تحالف بين الإنجليز والسرايا لكى يتم تنصيب الملك أحمد فؤاد خليفة للمسلمين بعد قرار (أتاتورك بإلغاء الخلافة...)، وهذا انقلاب فكرى ينحاز فيه محمد عمارة إلى فريق التحالف بين السلطان و(الاستعمار) ضد الشيخ المتمرد على مؤسسته الراكدة. لماذا انقلب محمد عمارة على نفسه عام 1994؟ غالبًا هى رغبة فى ركوب موجة الإحباط السياسى وتفسير الهزيمة على أنها ابتعاد عن الله. واختصر مهاراته فى ندب الواقع. احتقار كل منجزات الإنسان. وتلويث كل المخالفين له بتحويل أفكارهم إلى تهم. ولم تعد العلمانية والاشتراكية والليبرالية أفكارًا أو اجتهادات بشرية، بل «مؤامرات استعمارية» أو «خروج عن العقيدة»... أو «كفر وإلحاد». وأحب محمد عمارة لعبة مفتش البوليس. يطارد كل من يكتب ليبحث فى عقيدته بدلاً من مناقشة أفكاره. وهذا ما جعله يعلن فى مقالات «الشعب» 1994 اكتشافه المذهل أن «طه حسين هو الذى كتب (الإسلام وأصول الحكم)» ووضع اسم الشيخ على عبد الرازق عليه. ومن الطبيعى أن محمد عمارة وهو يكتب هذا الكلام لا بد أنه كان ينتظر التصفيق الحاد من جمهور الترسو. ولا بد أنه فعل ذلك وهو يروج لفكرة أن تحرير القدس يبدأ بالتخلص من الشيعة. وهذه حكاية أخرى.