لفت الحادث الانتباه. . ! قالوا أن الذي قتلته. . امرأة! الأثرياء اهتموا بالقتيل، فهو واحد من أكبر وأشهر تجار الألماظ. . معظم الفنانات – أيضا – كن يتعاملن معه. . كل واحدة منهن سواء من طبقة الأثرياء أو أهل الفن كانت تتفاخر بأن ما تتحلى به من ألماظ اشترته من الخواجة؟. . ولم يكن هذا اسمه وإنما اشتهر به من "البرنيطة" التي تعلو شعره الناعم الأصفر. . وزرقة عينيه. . وقوامه الرياضي المشدود. . واحمرار وجهه كأن الدماء تجري خارج عروقه لا داخلها! الطب الشرعي تأخر تقريره لأن الجثة كانت قد اوشكت على التحلل. . والكلاب الضالة هي التي أرشدت عنها عندما عبثت بها داخل إحدى المقابر المهجورة. . ولولا القدر ثم هؤلاء الذين كانوا يشيعون متوفيا لهم بالصدفة ما اكتشف أحد جثة الخواجة. . وكانت الكلاب الضالة قد أتت عليها ولم تترك منها سوى بقايا البقايا!! المباحث وضعت ضمن احتمالاتها القوية أن الجاني امرأة وأنها كانت في لحظة ارتباك واضح وهي تريد التخلص من الجثة بأي شكل، فلم تتنبه إلى أحمر الشفايف الذي طبع بصمة واضحة لشفتين إثر قبلة عنيفة طالت أكثر مما يجب!!. . كما أن المرأة المرشحة للجريمة لم تتنبه – أيضا – إلى بعض الشعر بين أصابع القتيل. . أو ربما تنبهت وفشلت في إبعاد هذا الشعر من بين الأصابع التي ماتت وهي تمسك به. ! خبراء المعمل الجنائي قالوا أن الشعر المحبوس بين أصابع الخواجة لا يمكن أن يكون إلا لامرأة نظرا لطوله وطبيعته. . وان الخواجة في تلك اللحظة إما أنه كان في لحظة دفاع عن النفس أو في لحظة رغبة جامحة واشتباك غريزي بلا وعي!. . ومع هذا لم تستبعد المباحث باقي الاحتمالات، وبطريقتها المعتادة في البحث اقتحمت الحياة الخاصة للخواجة، سواء علاقاته أو خصوماته، أو مشاكله مع التجار وعاشقات الألماظ من زبائنه. . لكن دائرة الاشتباه لم تتسع مما زاد من صعوبة القضية لأن الخواجة يحظى بسمعة جيدة بين زملائه وأهل مهنته. . بل وجيرانه وأصدقائه. . لا يخاصم أحدا ولا يميل للعنف ويبدأ هو بالتصالح مع من خاصموه ولو كان الحق معه!. . أما زبائن المحل الذي يقع في أكثر مناطق القاهرة رقيا فإن معظمهم كانوا من النساء. . ودارت الشبهات حول امرأتين فقط. . ورجل!. المرأة الأولى اسمها عزة وتنتمي للطبقة التي يصدق عليها وصف الطبقة المخملية. . تبدو مثل البرنسيسات رغم عمرها الذى تجاوز خمسة وخمسين عاما، جسدها النحيل يساعدها على ارتداء ملابس بنت العشرين. . متحررة. . عاشقة للحياة. . شهد جيران المحل أنها تشاجرت مع الخواجة وفي قسم الشرطة قررت عزة أن الخواجة فهم سلوكها بطريق الخطأ وتجاهل عائلتها العريقة وظن بها الظنون لأنها لم يسبق لها الزواج فراودها عن نفسها؟. . والثانية اسمها "سها". . عمرها أربعون عاما وواضح من مظهرها ولهجتها ومشيتها أنها تنتمي للعائلات المتوسطة والشعبية، لهذا كان غريبا على جيران المحل أن يشاهدوا امرأة مثلها ترتاد هذا المكان المتخصص في بيع الألماظ الحر في أعلى درجات نقائه. . ولأن الخواجة لا يذاع له سرا لم يسأله أحد عن هذه السيدة التي وقفت أمام محله تهدده بأنه سيدفع الثمن غاليا من أهلها في الصعيد!. . لكن ما هو السبب؟!. . إنها امرأة لا يمكن أن يراودها رجل عن نفسها – حتى ولو كان كفيفا !. . أما الرجل فكان فؤاد. . هذا العجوز الذي تجاوز السبعين عاما. . كان هو العامل الوحيد الذي يأتمنه الخواجة على ثروته ومحله الشهير. . وذات يوم اكتشف الخواجة ضياع قطعة ألماظ ثمينة من خزينته فثارت شكوكه في عم فؤاد الذي كان يمر بضائقة مالية. . فلما أنكر العجوز قام الخواجة بشل حركته وأطبق على عنقه في نفس اللحظة التي جاء فيها ابن عم فؤاد في زيارة غير مسبوقة للمحل الذي يعمل فيه والده. . فوجئ الابن بأبيه كالفأر المذعور بين يدي الخواجة فأسرع يستخلص والده ويطلب الشرطة. . وتحرر محضر ضد الطرفين. . الخواجة يتهم العجوز بالسرقة ونجل العجوز يتهم الخواجة بالضرب المبرح الذي أحدث إصابات. . وأفرجت النيابة عن الطرفين بكفالة مالية. . وبعد أيام تذكر الخواجة المكان الذي يحتفظ فيه بالقطعة الألماظية الضائعة. . جن جنونه لأنه ظلم بريئا فطار إلى بيت العجوز يعتذر ويستسمحه ويرجوه أن يعود للعمل مرفوع الرأس. . لكن ابن العجوز رفض بشدة وطرد الخواجة وهو يصرخ في وجهه بأنه سيربيه بطريقته الخاصة. . !. . وظل الخواجة خائفا وهو يروي هذه الواقعة لأصدقائه مرددا لهم أنه لو حدث له مكروه فسيكون الجاني ابن عم فؤاد! أين هي؟! رئيس النيابة أفرج عن كل المتهمين واستبعدهم ووضع خطاً أحمر تحت سطور الشهود الذين بعد أن أكدوا دماثة خلق القتيل ونبله وكل الصفات الايجابية أضافوا أن عيبه الوحيد كان يتركز في عينيه الزائغتين ونزواته ومغامراته النسائية غير المحسوبة أحيانا!. . وأشر رئيس النيابة بخطوط حمراء أخرى تحت المعلومات التي تؤكد أن عزة مضى على نزاعها مع الخواجة ثلاثة أعوام وثبت أنها نست الواقعة تماما. . وسها ثبت أنها متزوجة من قريب للخواجة ينتمي إلى الفرع الفقير بالعائلة وأن بين زوجها وأشقائه وبين الخواجة قضايا ميراث بالمحاكم. . لكن زوجها طردته المستشفى رغم مرضه الخطير لعجزهم عن سداد فاتورة الإقامة والعلاج فهرولت إلى الخواجة تطلب قرضا ليستكمل زوجها العلاج. . أما ابن عم فؤاد فقد ثبت أنه يعمل بإحدى دول الخليج بعد واقعة نزاعه مع الخواجة بشهور قليلة!. . وهكذا وضح استياء رئيس النيابة من خطة المباحث. . وبعيدا عن الأوراق الرسمية استدعى رئيس المباحث وأبلغه شفاهة أن دم هذا القتيل سيكون في رقبته لو لم تصل المباحث إلى صاحبة أحمر الشفاه فوق عنق الخواجة وبعض شعرها الساكن بين أصابع الجثة!. . وظل رئيس النيابة يحث ضابط المباحث على بذل جهد أكبر للبحث عن هذه المرأة ثم أشر على محضر التحريات بضرورة إعادتها مرة أخرى! ويبدو أن ضابط المباحث قضى يوما عصيبا لم يألفه من قبل بعد مقابلة رئيس النيابة. . لكن حدث في اليوم التالي ما يشكل مفاجأة من العيار الثقيل. . وصل تقرير الطب الشرعي الذي يؤكد أن الوفاة كانت طبيعية ونتيجة هبوط حاد بالدورة الدموية!. . ظن الضابط أن القضية انتهت عند هذا الحد. . لكن رئيس النيابة عاد ينبه عليه أن التقرير يعيدهم الى نقطة الصفر. . فالجريمة قد تغيرت من القتل عمدا و تحولت إلى إخفاء جثة. . ولابد أن الذي قام بإخفاء الجثة كانت له مصلحة في إخفائها، بل وكان آخر من قضى معه الخواجة اللحظات الأخيرة من حياته. . ولابد أن تكون تلك المرأة صاحبة أحمر الشفاه والشعر الأصفر الذي انتقل من رأسها إلى أصابع المتوفي! وبلا وعي همس الضابط بصوت مسموع: وتطلع مين دي بقى؟! ورد رئيس النيابة في حسم: هذا هو عملك؟ جلسة سرية! أغلق الضابط عليه مكتبه وراح يعصر ذهنه في وقائع القضية وأشخاصها من البداية إلى النهاية. . وبعد تفكير عميق توقف أمام "صفصف" إحدى راقصات الملهى الليلي الذي يتردد عليه الخواجة بين حين وآخر. . المؤكد أنها ليست صاحبة احمر الشفاه لأن شعرها أسود ناعم بينما شعر المرأة المجهولة أصفر بلون الذهب. . لكن المؤكد – أيضا – أن "صفصف" لقربها الشديد من الخواجة كانت تعلم شيئا عن نزواته ومغامراته النسائية بخلاف المعلومات التي أدلت بها أول مرة. . لحظات. . وكان رئيس المباحث يناقش "صفصف" عبر الهاتف. . وإذا بمفاجأة جديدة تجري على لسان "صفصف": الحقيقة عندي شك في واحدة. . بس خايفة أظلم. . علشان كده ما جبتش اسمها على لساني أبدا. أرجوك. . لن نظلمها هذا وعد مني بشرفي. . لكن نريد أن نريح ضمائرنا. . حدثيني عنها. بنت غلبانة. . ظروفها وحشة. . بس زي القمر. . حاولت تظهر كمطربة في الملهى. . لكن حاربوها. . وليلة ما مشيت من الملهى ودموعها على خدها. . ناداها الخواجة. . قعدت معاه كتير على الترابيزة بتاعته. . وبعدين اختفت. . بس سمعت إنها بقت مبسوطة وعايشة مرتاحة. . مش عايزة أظلمها. . ما أعرفش منين جابت فلوس! اسمها ايه؟! ندى. . ! شعرها لونه إيه. . ؟! أصفر. . وطويل. . وناعم. . معاك تليفونها المحمول؟! أيوه. . ثلاثة أسابيع استخدم فيها الضابط كل أسلحته وفي مقدمتها التحريات وامكانات إدارة الحاسب الآلي . . وشركة الموبايل . . حتى توصل إلى عنوان ندى. . وبعد استئذان النيابة هاجم شقتها لعل وعسى يعثر على أشياء خاصة بالخواجة تثبت علاقتها به، إلا أن التفتيش لم يسفر عن أية آثار سوى رقم تليقون الخواجة على هاتفها المحمول!. . وقبل أن يدب اليأس في قلب الضابط قالت له ندى: لم أنكر معرفتي به. . وإعجابه بي. . وأنه أهداني خاتم ألماظ من النوع النادر لم تعثروا عليه أثناء التفتيش وانا الوحيدة الذي أعرف مكانه. . ومستعدة لإحضاره. . لكني لم أعرف شيئا عن وفاة الخواجة. . وأين كان آخر لحظات عمره! كان شعر ندى هو نفسه الشعر الذي كان بين أصابع الجثة. . وكان الخاتم الألماظ هو الآخر ضمن أدلة الاتهام التي سبقت ندى لمحكمة الجنايات رغم إنكارها التام بمعرفة النهاية المؤلمة للخواجة. . بل ظلت تلتزم الصمت التام حتى نصحها رئيس المحكمة بأن اعترافها بالحقيقة قد يكون فيه نجاتها أو تخفيف العقوبة بينما صمتها قد يلقي بها في غياهب السجون لأن ممثل الاتهام يصر على أن نزاعا حدث بينها وبين صاحب الجثة انتهى بمشاجرة ووفاة ثم اختفاء الجثة لأسباب لا تريد البوح بها!! وبعد جلسات قليلة شعرت ندى لخطورة صمتها فطلبت من المحكمة أن تستمع لها في جلسة سرية. . ووافق رئيس المحكمة! أنا. . هي! قالت ندى وهي منهارة: - طلبت جلسة سرية حفاظا على مشاعر أخي طالب الجامعة. . إنه الوحيد الذي يشفق على ظروفي من كل العائلة التي تقيم في الريف. . كنت أتعلم في القاهرة وفشلت . . وساقني طموحي المريض في أن أكون مطربة إلى عالم الملاهي الليلية. . أهلي لازالوا يعتقدون أنني تخرجت من الجامعة والتحقت بالعمل في أحد البنوك. . وفي الليلة التي استغنى عني صاحب الملهى تعرفت على سمير المشهور بالخواجة. . كان يبدو كمراهق لا يتمالك أعصابه وأنا أجلس إلى جواره بعد أن استدعاني وجفف دموعي. . نظراته كانت تلتهمني. . رجال كثيرون كانوا يعجبون بي. . لكن أحد منهم لم يسل لعابه مثل الخواجة الذي فتح أمامي أبوابا كثيرة للعمل. . ؟ كنت متحفظة لأني مثل أي امرأة تواجه الدنيا بمفردها . . أدركت أنه يبحث عن سبيل يصل به إلى غايته مني. . ورغم ثرائه ورغم فقري أوصدت أمامه كل الأبواب. . حتى دعاني لزيارة محله وبهرني بأطقم الألماظ التي كان يعرضها أمامي ويحكي لي قيمة وتاريخ كل قطعة وثمنها الفلكي. . وفجأة وقعت عيناي على طقم يخطف بصر أي امرأة في العالم. . ويبدو أنني انبهرت به بشدة. . ولمح الخواجة الحسرة في عيني. . فإذا به يهمس لي إنه مهري!. . فرحت لأنه أخيرا سيتزوجني بعد أن فشلت كل حيله. . لكنه همس لي بأن زواجنا سيكون على طريقته. . شفويا وسريا. . والإقامة ستكون في شقة فاخرة من شقق الإيجار بالقاهرة الجديدة وسوف يدفع إيجارها لمدة ثلاثة أعوام مقدما. . رغم ترددي من طريقة الزواج وافقت وأنا أحلم بلحظة امتلاكي لطقم الألماظ. . عشنا معا في شقة القاهرة الجديدة. . وكانت المفاجأة وصول أخي الذي يبادلني الحب ليدخل جامعة القاهرة. . ولهذا حددت للخواجة الأوقات التى أستضيفه فيها وكانت ثلاثة أيام في الأسبوع. . لأن أخي لا يحضر فيها . . اعترف أن الخواجة لم يبخل عليّ بشىء. . أغدق عليّ بالمال. . بهرته بأكثر مما بهرني طقم الألماظ. . وفي اليوم الموعود جاءني متلهفا. . لم يأكل ولم يشرب. . حملني إلى غرفة النوم. . ظللت بين ذراعيه ساعة كاملة مرت كأنها لحظة. . كنا في اشتباك حب كأنه شجار. . وفجأة. . فارقته الروح. . تنبهت. . أفقت. . دارت بي الدنيا. . إنها كارثة. . كيف أتصرف في الجثة وماذا أقول لأخي الذي سيحضر صباح اليوم التالي. . بكيت بحرقة. . وأخيرا هداني تفكيري للتصرف بهدوء لأن أحدا لا يعرف ارتباط الخواجة بي. . وضعته داخل جوال. . وفي قلب الليل كان البواب في ثبات عميق. . فتحت باب العمارة وأنا على أطراف أصابعي. . وضعت الجوال في حقيبة السيارة. . مضيت وأنا أرتجف نحو المقابر. . أخرجت من حقيبتي "بطارية" أنير بها الطريق وعثرت لحسن حظي – أو هكذا تصورت – على مقبرة مفتوحة ومهجورة. . وضعت الجوال. . وعدت أتنفس الصعداء!. . كنت خائفة أن أسقط في نظر أخي فليس معي ما يثبت زواجي من هذا الرجل. . ولو قلت له أنه كان ضيفا فهل يصدق مخلوق أن ضيف امرأة يكون في غرفة نومها عاريا !!. . أنا لم أقتل يا حضرات القضاة كما ثبت في تقرير الطب الشرعي. . وكان صمتي وتخلصي من الجثة خوفا على مشاعر أخي وعلى حياتى. . ولأن الخواجة نفسه كان كالمقطوع من شجرة. . فمن كان سأبلغه ليتسلم الجثة. . وكيف كان سينظر الناس لي وأنا أبلغ عن جثة رجل مات في حجرة نومي!!. . يا حضرات القضاة أنا بريئة والذي قتل هذا الرجل رغبته المجنونة في أن يعود شابا بين أحضان سيدة تصغره بعشرين عاما!!. . ربما يكون ذنبي الوحيد تلك القبلة التي عاشت على جسده بينما مات هو !! . . وهذا الشعر الذي انتزعه من رأسي. . ولم أشعر به!! قضت المحكمة في نهاية الجلسة السرية بحبس ندى ثلاثة شهور بتهمة دفن جثة دون تصريح مع إيقاف تنفيذ العقوبة مراعاة لحسن نية المتهمة. سألها أخوها على باب المحكمة عن الحكم. . فأجابته وهي تبكي: مش وقته !!