من أعماق البحر الأحمر، حيث تلتقي أحلام التنمية بإرادة الحديد والإسمنت، تولد بقعة لوجستية جديدة تضع مصر في قلب خريطة التجارة العالمية.. لهذا شهد الوطن الغالي الأسبوع الماضي حدثًا لوجستيًا كبيرًا، يُعيد تشكيل خريطة النقل البحري الإقليمي، بدخولها موسوعة جينيس للأرقام القياسية بأعمق حوض ميناء من صنع الإنسان على اليابسة بعمق 19 متراً، إلى جانب التشغيل الفعلي لمحطة البحر الأحمر لتداول الحاويات رقم (1) بميناء السخنة، التي سيديرها تحالف ثلاثي يضم عمالقة الملاحة العالمية: "هاتشيسون" و"سي إم إيه" و"كوسكو". ويعود أصل المشروع إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما سعت مصر لاقتحام عالم موانئ الحاويات عبر إنشاء محطتي السخنة وشرق بورسعيد كمناطق ترانزيت. واجهت المناقصة العالمية للمحطتين في عام 1998 صعوبات في جذب المشغلين، مما أدى إلى التفاوض مع شركة "ميرسك" الدنماركية التي فرضت شروطاً شملت حقها في تشغيل محطة شرق بورسعيد وتنمية السخنة، مع تقييد إنشاء محطات حاويات جديدة على البحرين المتوسط والأحمر. وتطور الموقف لاحقاً في عام 2008، عندما باعت شركة تنمية السخنة المحطة البالغ طولها 1200 متر إلى "موانئ دبي العالمية" حصلت مصر صاحبة المشروع ،! 700 مليون جنيه مصري (ما يعادل نحو 140 مليون دولار آنذاك)مقابل موافقتها علي نقل الملكية !؟ يُعدّ الافتتاح الحالي بمثابة انعطافة استراتيجية، تُغلِق صفحة من التحديات التاريخية وتمهد لمرحلة جديدة، تؤكد تحول مصر إلى مركز لوجستي جاذب للاستثمارات العالمية وتعزز موقعها على خريطة التجارة الدولية. تُرسل المرحلة الحالية رسائل قوية، أولها أن مصر 2025 تختلف جذريًا عن عام 1998. فبينما قامت قديمًا ببناء البنية التحتية وانتظرت المستثمر، أصبح المشروع الآن محل تنافس عالمي حاد. يعد ميناء السخنة أحد المكونات الرئيسية للممر اللوجستي "السخنة - الإسكندرية" أو ما يُطلق عليه "قناة السويس البرية"، خاصة بعد ربطهما بالقطار السريع. وقد طلب الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء للتنمية الصناعية من التحالف الفائز تقديم عروض استثمارية بحصص وامتيازات أكثر نفعًا لمصر، مما يؤكد تحول البلاد إلى مركز لوجستي جاذب في صناعة تستحوذ على 90% من حركة التجارة العالمية. الرسالة الثانية تتمثل في تدشين اسم "البحر الأحمر" كمحطة ملاحية رئيسية على الخرائط العالمية، لتؤكد مصر أحقيتها في تمثيل وتسمية هذا الممر المائي الاستراتيجي بمحطاته ونقاطه من قناة السويس شمالاً حتى أسوان جنوبًا. أما الرسالة الثالثة والطموحة، موجهة الي الفريق كامل الوزير القادر على تحقيقها، فهي التوسع المصري في القارة الإفريقية. في ظل الاهتمام والدعم الذي يوجهه الرئيس عبد الفتاح السيسي لدعم إفريقيا، وتوفر الخبرات والعلاقات والاتفاقيات المصرية، لم يعد مقبولاً وجود خطوط ملاحية إقليمية ودولية تدير موانئ إفريقية بينما يتغيب الدور المصري. ويستذكر الكاتب فرصة تاريخية ضاعت قبل سنوات، عندما عرضت دولة مطلة على البحر الأحمر على مصر إدارة محطة حاويات لها عبر ميناء الإسكندرية، وهو عرض لم تُتابعه وزارة النقل آنذاك بجدية كافية، مما أفقد مصر فرصة السيطرة على ممر تجاري هام يمتد من المحيط الهادي حتى البحر المتوسط. هكذا، لا تكتفي مصر بتحقيق أرقام قياسية، بل تعلن من خلالها بدء مرحلة جديدة، تترجم موقعها الجغرافي الفريد إلى قوة اقتصادية ولوجستية فاعلة على المسرحين الإقليمي والدولي. * مدير تحرير المصري اليوم