الأوطان ليست كياناتٍ ساكنة تُصان بالنوايا الطيبة وحدها، ولا الاستقرار هبةً تُمنح بلا مقابل؛ فالحفاظ على الأوطان له دائمًا ثمن، تدفعه الدول الواعية بقرارات محسوبة، وصبرٍ استراتيجى طويل، وقدرةٍ على تحمّل الضغوط قبل أن تتحول إلى كوارث. هنا تحديدًا تتبدّى فلسفة الدولة المصرية فى إدارة سياستها الخارجية: اتزانٌ لا يُغريه الاستعراض، وحزمٌ لا ينزلق إلى المغامرة، ورؤيةٌ تدرك أن منع الانفجار أصعب — وأشرف — من إدارة تداعياته؛ فالدول التى تنجو ليست تلك التى تخوض كل المعارك، بل التى تعرف متى تصبر، ومتى تتدخل، ومتى تجعل من الحكمة درعها الأول لأمنها القومى ومصالح شعبها. ومصر تصدّت، ولا تزال، لاضطراباتٍ عاصفة فى إقليمٍ مشتعل على الدوام، تُدير أمورها بهدوء وعقلانية، وتسير على حبلٍ وسط النيران «بعصا اتزان»، تسعى لحماية شعبها ومدّ يد العون لأشقائها. تدرك مصر دقة اللحظة المضطربة فى الإقليم والعالم، وغياب العقل السياسى السليم، وتلتمس حسن التقدير فى التعامل مع المتغيرات الصعبة فى كل الأحيان..ولذلك يكتسب صدور الكتاب التوثيقى لوزارة الخارجية المصرية حول مبدأ الاتزان الاستراتيجى دلالته العميقة، لا بوصفه سردًا لوقائع، بل باعتباره شهادة دولة على فلسفة حكمت قراراتها فى عقدٍ مشتعل. مثّل الاتزان الاستراتيجى فى السياسة الخارجية المصرية نهجًا واعيًا تشكّل عبر الخبرة، واختبرته الأحداث، وصقلته أزماتٌ متلاحقة؛ فبينما كانت قرارات القاهرة تُقرأ أحيانًا فى الخارج كتحركاتٍ منفصلة فى ملفات غزة أو ليبيا أو السودان أو العلاقات مع القوى الكبرى، جاء هذا التوثيق ليكشف الخيط الناظم بينها، ويضعها داخل إطارٍ استراتيجى واحد، يرفض الاصطفافات الحادة، ويتجنب التحولات المفاجئة، ويبتعد عن المقاربات الأيديولوجية التى أحرقت الإقليم وزادت من معاناة سكانه. هذا النهج لم يكن ممكنًا لولا إدراك القيادة السياسية لطبيعة اللحظة التاريخية؛ فقد واجهت مصر، تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، محيطًا إقليميًا بالغ الاضطراب، ونظامًا دوليًا يتآكل، ومعايير تُستخدم بانتقائية، ومؤسساتٍ دولية تتراجع فاعليتها، ومع ذلك اختارت مصر، بعقلانيةٍ شديدة، التمسك بالقانون الدولى وعدم التوقف عن الرهان على العدالة الدولية. جوهر الاتزان الاستراتيجى كان جوهر الاتزان الاستراتيجى الذى رسم ملامحه الرئيس السيسى هو صناعة سياسات وطنية لا تعرف التردد، لكنها ترفض التهور؛ لا تنسحب من المشهد، لكنها لا تقفز إلى النار. وقد مكّن هذا النهج مصر من تجنيب المصريين ويلات الحروب من حولنا، وتقليل الآثار الجانبية لهذه الأزمات، والحفاظ على عمليات البناء والنمو الاقتصادى المستدام. ولعل أبرز تجليات هذا النهج كان الصبر الاستراتيجى الذى مارسه الرئيس السيسى فى التعامل مع أزمات الشرق الأوسط المفتوحة؛ صبرٌ محسوب لا يعنى السكون، بل القدرة على الانتظار الواعي، وقراءة موازين القوى، والتدخل فى اللحظة المناسبة، دونما التفات لمحاولات التشويه والتعطيل. فى ليبيا، على سبيل المثال، مارست مصر ردعًا حاسمًا دون انزلاق إلى حربٍ شاملة وفى غزة، بدا الاتزان المصرى فى أوضح صوره: موقفٌ سياسى صلب يرفض التهجير وتصفية القضية، وانخراطٌ إنسانى واسع جعل مصر بوابة المساعدات الأولى إلى القطاع، دون السماح بتحويل الإغاثة إلى بديل عن الحل العادل. هذا الجمع بين الصلابة والإنسانية لم يكن تناقضًا، بل تعبيرًا عن فهمٍ عميق لطبيعة الصراع، وإدراك أن السلام الهش لا يصنع استقرارًا. وفى السياق ذاته، تتجلّى معادلة الاتزان الاستراتيجى المصرى بوضوح فى الموقف من الأزمة السودانية، وجاء لقاء الرئيس السيسى بالفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، ليؤكد أن مصر لا تتعامل مع ما يجرى فى السودان بوصفه شأنًا خارجيًا عابرًا، بل كامتدادٍ مباشر لأمنها القومى وحدودها الاستراتيجية فقد جدّدت القاهرة دعمها لرؤية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الهادفة إلى إحلال السلام وتجنب التصعيد، فى انسجامٍ مع نهجٍ مصرى ثابت يقدّم التسويات السياسية ووقف النزيف الإنسانى على منطق الفوضى والانقسام. وعبّرت القاهرة بوضوح عن قلقها البالغ إزاء التصعيد الدموى والانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين، لا سيما فى الفاشر، مؤكدة أن وحدة السودان وسلامة أراضيه، والحفاظ على مؤسساته الوطنية، تمثل خطوطًا حمراء لا تقبل المساومة أو التجاوز، باعتبار أن المساس بها يفتح أبوابًا للفوضى الإقليمية ويمس مباشرة الأمن القومى المصري. ومن هذا المنطلق، جاء الرفض القاطع لأى محاولات لتفكيك الدولة السودانية أو إنشاء كياناتٍ موازية، بالتوازى مع تأكيد حق مصر فى اتخاذ ما يلزم من إجراءاتٍ مشروعة وفق القانون الدولى واتفاقية الدفاع المشترك، مع استمرار العمل ضمن إطار الرباعية الدولية للتوصل إلى هدنةٍ إنسانية ووقفٍ شامل لإطلاق النار يضمن حماية المدنيين وفتح ممراتٍ آمنة للإغاثة، فى مقاربة تجمع بين الحزم السياسى والمسئولية الأخلاقية. الدور الإقليمي لمصر ومع تراكم هذه المواقف، أصبح الدور الإقليمى لمصر مطلوبًا من كل القوى، وأصبحت القاهرة رقمًا مهمًا ومؤثرًا فى معادلات الإقليم، وفاعلًا رئيسيًا لا تُدار الأزمات الكبرى فى غيابه، لقدرتها على التواصل مع أطرافٍ متناقضة، وحفظ خطوط الحوار مفتوحة، وهو ما جعلها منصةً ضرورية للوساطة، وعاصمةً للقرار الرشيد فى محيطٍ مأزوم، وراعيًا للسلام فى منطقةٍ تبحث عنه بكل قواها. ومن هنا تأتى خصوصية علاقتنا بالولايات المتحدة، ونجاح الرئيس السيسى فى بناء علاقةٍ مباشرة وقوية مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وتوظيفها فى تهدئة أزماتٍ إقليمية معقدة، وفى مقدمتها حرب غزة، حيث استُخدمت هذه القنوات لتقليل التصعيد وفتح مساراتٍ للتهدئة، بما يخدم استقرار المنطقة ويخفف كلفة الصراع على المدنيين. إن الاتزان الاستراتيجي، كما تكشفه التجربة المصرية، لم يكن سياسة رمادية، بل سياسة ذكية تعرف متى ترفع الصوت ومتى تُخفضه، ومتى تُلوّح بالقوة ومتى تُطلق المبادرة؛ سياسة تحمى المصالح دون استعداءٍ غير ضروري، وتُعلى من قيمة التنمية باعتبارها خط الدفاع الأعمق عن الأمن القومي. يمكن القول إن مصر، عبر هذا النهج، قدّمت نموذجًا لدولةٍ اختارت أن تحيا بعقلها لا بانفعالاتها، وأن تُدير أزماتها بميزان الذهب لا بمنطق المقامرة. ومع استمرار التحولات الإقليمية والدولية، يبدو الاتزان الاستراتيجى ليس فقط خيارًا ناجحًا للماضي، بل ضرورةً للمستقبل، تقود به مصر مرحلةً جديدة، وهى أكثر ثقة بدورها، وأرسخ قدمًا فى محيطها، وأقدر على تحويل الحكمة إلى قوة، والصبر إلى إنجاز، والدولة إلى ملاذٍ آمن لشعبها وسط عالمٍ لا يكف عن الاضطراب. كما تبقى الحقيقة الأكثر قسوة وصدقًا أن الحفاظ على الأوطان ليس طريقًا مفروشًا بالشعارات، بل مسار شاق من القرارات الصعبة التى تُتخذ كى تظل حياة الناس فى مأمن من جنون الفوضى ونزيف الحروب ونار العوز؛ فالدول العاقلة لا تقيس نجاحها بعدد المعارك التى تخوضها، ولا بالشعارات الصاخبة التى ترفعها، بل بعدد الأرواح التى تنجو، وعدد البيوت التى تبقى عامرة، وعدد الأجيال التى تُعفى من دفع فاتورة التهور. وهنا تتجلى قيمة القيادة الرشيدة التى تعرف أن أثقل الأثمان هو القرار الخاطئ، وأن أعظم أشكال الشجاعة ليست فى إشعال الحرائق، بل فى إطفائها قبل أن تمتد. تلك هى تكلفة الحفاظ على الأوطان: صبرٌ محسوب، وحكمةٌ مسئولة، واستعدادٌ لتحمّل الضغوط اليوم، حتى لا يدفعها المواطن غدًا دمًا وخوفًا وخرابًا.