في لحظة تبدو فيها علامات التراجع واضحة على بنية النظام الدولي، اتخذت وزارة الخارجية المصرية خطوة غير معتادة تمثلت في عرض رؤيتها للسياسة الخارجية عبر كتاب شامل، بدلاً من الاكتفاء بالبيانات أو ردود الفعل المرتبطة بكل أزمة. فقد صدر كتاب «الاتزان الاستراتيجي» ليس بوصفه إصدارًا مؤسسيًا احتفاليًا، بل كمحاولة لشرح المنطق الذي حكم تحركات السياسة الخارجية المصرية خلال العقد الماضي، وتوضيح الكيفية التي تعاملت بها القاهرة مع عالم بات يتسم بالصراعات الحادة، والاستقطاب، وتراجع الالتزام بقواعد النظام الدولي. موضوعات مقترحة "الصوب الزراعية" رهان الدولة لتحقيق الأمن الغذائي وترشيد المياه حمدي رزق يكتب عن: الشغف الانتخابى المفقود الأزهر ينظِّم الاحتفالية السنويَّة بالأشخاص ذوي الإعاقة.. اليوم ويعكس قرار نشر هذا الكتاب إدراكًا متزايدًا بأن السياسة الخارجية لم تعد تُصاغ فقط خلف الأبواب المغلقة، بل أيضًا من خلال الأفكار التي تشرح كيف ترى الدول نفسها، وكيف تقدم تفسيرًا لاختياراتها أمام شركائها وخصومها والرأي العام الداخلي. وتحمل هذه الخطوة دلالة مهمة بحد ذاتها. فالدول نادرًا ما تتوقف لتقنين منطق سياساتها الخارجية في وقت لا تزال فيه الأزمات متلاحقة. وغالبًا ما تترك مواقفها تتراكم دون إطار تفسيري جامع. ويشير صدور كتاب «الاتزان الاستراتيجي: ملامح من السياسة الخارجية المصرية في عشر سنوات» إلى إدراك مصري بوجود فجوة مستمرة بين كيفية ممارسة السياسة الخارجية وكيفية تفسيرها في الخارج. فكثيرًا ما تُقرأ القرارات المتعلقة بغزة أو ليبيا أو السودان أو العلاقات مع القوى الكبرى قراءة منفصلة، بمعزل عن السياق الاستراتيجي الأوسع الذي صدرت فيه. ويسعى الكتاب إلى معالجة هذه الفجوة عبر تقديم سردية متماسكة تربط بين المواقف المصرية في ملفات وأقاليم متعددة، وتشرح لماذا حرصت القاهرة، باستمرار، على تجنب الاصطفافات الحادة، والتحولات المفاجئة، والمقاربات الأيديولوجية في سياستها الخارجية، حتى في ظل ضغوط كبيرة. لقد أصبح من المضلل بشكل متزايد تقييم السياسة الخارجية لأي دولة دون وضعها في سياق البيئة الدولية التي تعمل داخلها. فالنظام الدولي الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، رغم عيوبه، كان قائمًا على افتراضات من القابلية للتنبؤ. فقد كانت القواعد ناقصة لكنها معروفة، والمؤسسات الدولية لها وزن، والتصعيد له كلفة واضحة. إلا أن جانبًا كبيرًا من هذا الإطار قد تآكل. فقد عادت الحروب التقليدية إلى أوروبا، وباتت القوى الكبرى تتجاوز المؤسسات متعددة الأطراف بشكل متزايد، فيما لا تزال صراعات الشرق الأوسط بلا حلول لعقود طويلة. وغالبًا ما يُستدعى القانون الدولي بصورة انتقائية، ويُخضع للاعتبارات السياسية. ولا يسعى كتاب «الاتزان الاستراتيجي» إلى الدفاع عن هذا النظام، بل يعترف بتراجعه، ويشرح كيف تكيفت مصر مع منظومة لم تعد تراها مستقرة أو عادلة. وفي قلب الكتاب يبرز مفهوم «الاتزان الاستراتيجي»، الذي شدد عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي مرارًا باعتباره الأساس الحاكم للسياسة الخارجية المصرية. ويُقدَّم هذا المفهوم بحذر ودقة. فهو لا يعني الحياد، ولا السلبية، ولا التردد في اتخاذ القرار. بل يعكس – كما أوضح الرئيس – سياسات تحكمها «محددات وطنية واضحة، في مقدمتها الحفاظ على الأمن القومي المصري، والسعي لتحقيق السلام الشامل القائم على العدل». وعمليًا، يعني الاتزان الاستراتيجي الحفاظ على قدر من حرية الحركة في بيئة دولية بات فيها الاصطفاف الصارم سببًا للمخاطر بقدر ما يُقدَّم أحيانًا كضمانة. ويحرص الكتاب على التأكيد أن هذا النهج لم ينشأ من تنظير مجرد، بل تشكل عبر الخبرة. فالاضطرابات التي أعقبت عام 2011 كشفت بوضوح عواقب انهيار الدولة في عدد من الدول العربية. فحيثما ضعفت المؤسسات أو تفككت، ملأت الجماعات المسلحة الفراغ. وتعددت التدخلات الخارجية، وتآكلت الحدود. وبالنسبة لمصر، لم تكن هذه التطورات بعيدة جغرافيًا أو سياسية، بل مثلت تهديدات مباشرة لأمنها. وقد فرض صعود الميليشيات والتنظيمات المتطرفة والتهديدات العابرة للحدود على القاهرة إعادة تقييم افتراضات راسخة بشأن النظام الإقليمي. ثم جاءت الأزمات العالمية اللاحقة لتعزز هذا التقييم. وكما أشار الرئيس السيسي في أحد المحافل الدولية، فقد كشفت هذه الأزمات «عجز النظام الدولي عن التعامل بإنصاف مع الأزمات، واعتماده المتزايد على الانتقائية والمعايير المزدوجة». وينعكس هذا التشخيص في قراءة الكتاب لمحيط مصر العربي. فالحديث عن الاتزان الاستراتيجي هنا لا يأتي بوصفه مبدأ نظريًا، بل كاستجابة عملية لحالة عدم الاستقرار. ويعود النص مرارًا إلى فكرة محورية مفادها أن الدولة الوطنية هي الوحدة الأساسية للاستقرار. فحيثما تنهار الدولة، تصبح الفوضى ممتدة وصعبة الاحتواء. ومن ثم، انطلقت السياسة الخارجية المصرية من أولوية الحفاظ على مؤسسات الدولة، مع الإقرار بالحاجة إلى الإصلاح والانفتاح السياسي. أما البديل – أي تفكيك الدولة تحت شعارات التغيير – فقد أثبت، في تجارب متكررة، أنه ينتج صراعات طويلة لا استقرارًا. وتحتل القضية الفلسطينية موقعًا مركزيًا في هذا الإطار. فالكتاب يعاملها باعتبارها قضية أساسية للنظام الإقليمي، لا ملفًا تكتيكيًا تحكمه الظروف. وترفض الرؤية المصرية، كما يعرضها الكتاب، محاولات اختزال فلسطين في أزمة إنسانية منفصلة عن جذورها السياسية. وبعد اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، عارضت القاهرة المقاربات التي حصرت الجهد الدبلوماسي في وقف إطلاق نار مؤقت أو ترتيبات إنسانية فقط. وكان الرئيس السيسي واضحًا حين قال: «لا يمكن تحقيق استقرار حقيقي في الشرق الأوسط دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية». وفي الوقت نفسه، يشدد الكتاب على أن هذا الوضوح السياسي لم يكن على حساب المسؤولية الإنسانية. فقد نسقت مصر دخول النسبة الأكبر من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، بما تجاوز 70 في المائة من إجمالي المساعدات التي وصلت إلى القطاع. وقد جاء هذا المسار المزدوج – صلابة سياسية إلى جانب انخراط إنساني واسع – عن قصد. إذ حذرت القاهرة مرارًا من أن يتحول العمل الإنساني إلى بديل عن الحل السياسي. ويسجل الكتاب سعي مصر إلى منع «تحويل قضية سياسية إلى أزمة إنسانية دائمة». ويولي الكتاب أهمية خاصة للبعد القانوني والدبلوماسي للتحرك المصري. فدور القاهرة داخل الأممالمتحدة وأمام محكمة العدل الدولية يُقدَّم بوصفه جزءًا من محاولة أوسع لإعادة الاعتبار للقانون الدولي في لحظة يتراجع فيها حضوره. ولم تكن هذه التحركات رمزية، بل هدفت إلى مواجهة تراجع المعايير القانونية، وترسيخ مبدأ عدم قبول تحويل الاحتلال أو العقاب الجماعي أو التهجير القسري إلى أمر معتاد. ويربط النص بين هذا المسار وبين الزخم الدولي المتجدد حول قضية الدولة الفلسطينية، بما في ذلك قرارات الاعتراف التي اتخذتها عدة دول أوروبية. وتسير إدارة مصر لأزمات جوارها المباشر وفق المنطق ذاته. فالكتاب يشير إلى تزامن استثنائي لأزمات حادة على جميع الاتجاهات الاستراتيجية لمصر: ليبيا غربًا، السودان جنوبًا، وغزة شرقًا. وفي مثل هذه الظروف، تصبح السياسة الخارجية امتدادًا مباشرًا للأمن القومي. فالقرارات التي تُتخذ خارج الحدود تنعكس فورًا داخلها، سواء عبر تحركات سكانية، أو تهديدات أمنية، أو أعباء اقتصادية. وفي الحالة الليبية، يعرض الكتاب المقاربة المصرية بوصفها متزنة وحازمة في آن واحد. فقد رفضت القاهرة الانجرار إلى مغامرة عسكرية، كما رفضت في الوقت ذاته سياسة الانسحاب أو الحياد السلبي. وظلت أهدافها ثابتة: الحفاظ على وحدة ليبيا، ومنع الهيمنة الخارجية، ودعم مسار سياسي ليبي خالص. ويُفسَّر إعلان خط سرت–الجفرة عام 2020 كإجراء ردعي يهدف إلى وقف التصعيد، لا إلى إشعال الصراع. وفي هذا السياق، أكد الرئيس السيسي أن مصر لن تسمح «بأن يهدد الإرهاب أو الفوضى وحدة ليبيا أو أمن مصر». كما يبرز الكتاب دور القاهرة كمنصة للحوار الليبي، من خلال استضافة مسارات سياسية ودستورية وعسكرية، مع التشديد على مبدأ الملكية الليبية للحل. ويعكس ذلك قناعة راسخة بأن الحلول المفروضة من الخارج نادرًا ما تكون قابلة للاستمرار، وأن التدخل الخارجي غالبًا ما يطيل أمد الصراع بدلًا من إنهائه. وقد تحولت ليبيا، في سرد الكتاب، إلى اختبار عملي لقدرة الاتزان الاستراتيجي على الجمع بين الردع والدبلوماسية. أما السودان، فقد مثّل تحديًا مختلفًا، لكنه استدعى استجابة منضبطة بالمنطق نفسه. فقد دعمت مصر جهود الحوار ووقف إطلاق النار، وفي الوقت ذاته تحملت الأعباء الإنسانية للصراع عبر استضافة أعداد كبيرة من السودانيين وتوفير الخدمات الأساسية لهم. ولم يُنظر إلى هذا الدور باعتباره إجراءً طارئًا فقط، بل جزءًا من حسابات الاستقرار الأوسع. ويؤكد الكتاب أن الاعتبارات الإنسانية والأمنية ليست مسارين منفصلين، بل متداخلين بعمق. وتُقدَّم العلاقات المصرية الخليجية باعتبارها ركيزة أخرى من ركائز الاتزان الاستراتيجي. فالكتاب يشدد على أن أمن الخليج لا ينفصل عن حسابات الأمن القومي المصري. وهو ما يفسر انخراط القاهرة في تأمين الممرات البحرية في البحر الأحمر وباب المندب، وتنسيقها الوثيق مع دول الخليج خلال فترات التوتر الإقليمي. ولا يقل البعد الاقتصادي أهمية، حيث تُعرض المشروعات الاستثمارية الكبرى وآليات التنسيق المؤسسي بوصفها أدوات استقرار طويل الأمد، لا مكاسب قصيرة الأجل. وكما يكرر الرئيس السيسي، فإن «التنمية المستدامة هي خط الدفاع الأقوى ضد عدم الاستقرار». وعلى نطاق أوسع، يعالج الكتاب علاقات مصر مع أفريقيا وأوروبا وآسيا والولاياتالمتحدة بوصفها سياسة تنويع لا إعادة اصطفاف. فقد سعت القاهرة إلى توسيع شبكة شراكاتها دون التخلي عن علاقاتها القائمة. ففي أفريقيا، برز التركيز على التعاون التنموي، ومشروعات البنية التحتية، والعمل المؤسسي الإقليمي. وفي أوروبا، انصب التعاون على أمن الطاقة، وإدارة الهجرة، والاستقرار الإقليمي. أما في آسيا، فجاء الانفتاح المصري عمليًا ومحسوبًا، دون افتراضات حول تحولات سريعة في قيادة النظام الدولي. وتُوصَف العلاقة مع الولاياتالمتحدة باعتبارها شراكة استراتيجية تُدار بالحوار، لا بالتبعية ولا بالمواجهة. ويتجنب الكتاب تقديم صورة مثالية لهذه العلاقة، مع الاعتراف بوجود خلافات، لكنه يؤكد في الوقت ذاته على الاستمرارية والمصالح المشتركة. ويعكس ذلك جوهر فلسفة الاتزان الاستراتيجي: إدارة الخلاف دون تحويله إلى قطيعة، والتعاون دون التفريط في الاستقلالية. ويقدم كتاب «الاتزان الاستراتيجي» مساهمة مميزة من خلال وضع مصر ضمن فئة أوسع من «الدول المتوسطة»، حتى وإن لم يستخدم المصطلح صراحة. فالمنطق الذي يقدمه الكتاب يتقاطع مع استراتيجيات دول لا تملك القدرة على الهيمنة على النظام الدولي، لكنها ترفض التهميش داخله. وتسعى هذه الدول إلى تعظيم نفوذها عبر الدبلوماسية وبناء التحالفات وصياغة الأجندات، لا عبر الإكراه. ويغدو الاتزان الاستراتيجي، بهذا المعنى، أداة لتعظيم التأثير دون تجاوز القدرات. كما لا يتجاهل الكتاب المخاطر الكامنة في هذا النهج. فالعمل وفق منطق الاتزان يتطلب ضبطًا مستمرًا، وانضباطًا مؤسسيًا، وخطابًا دقيقًا، وقدرة على تحمل الضغوط دون ردود فعل متسرعة. وفي عالم يتسم بالاستقطاب، قد يصبح رفض الاصطفاف ذاته موضع انتقاد من أطراف متنافسة. ولا ينكر الكتاب هذه التحديات، لكنه يراها أقل كلفة من تبعات الارتهان أو التورط. وفي فصوله الختامية، يتناول الكتاب قضايا التعددية الدولية، ومكافحة الإرهاب، وتطور أدوات الدبلوماسية المصرية. فالتمسك بالعمل متعدد الأطراف يُقدَّم باعتباره خيارًا واقعيًا لا مثاليًا. فبالنسبة للدول التي لا تعتمد على القوة الخشنة وحدها، تظل الأطر الدولية وسائل حماية في مواجهة الأحادية. أما في ملف الإرهاب، فيطرح الكتاب مقاربة شاملة تربط بين الإجراءات الأمنية، ومواجهة الفكر المتطرف، والتنمية الاقتصادية. وكما قال الرئيس السيسي: «الإرهاب لا يقتصر على من يحمل السلاح، بل يشمل أيضًا من يمول، ويسلح، ويوفر الغطاء السياسي أو الأيديولوجي». وفي المحصلة، لا يدّعي كتاب «الاتزان الاستراتيجي» تقديم خارطة طريق نهائية لعالم مضطرب. لكن قيمته الحقيقية تكمن في شرحه لكيفية سعي مصر إلى الحفاظ على عقلانية القرار في زمن يتراجع فيه اليقين. فهو يقدم سياسة خارجية ترى في ضبط النفس استراتيجية لا ضعفًا، وفي الانخراط المتوازن ضرورة لا ترفًا. وبهذا المعنى، يطرح الكتاب قراءة تتجاوز التجربة المصرية، لتلامس سؤالًا أوسع حول كيفية تصرف الدول المتوسطة في نظام دولي لم يعد يمنح الاستقرار، بل يفرض التعامل معه وإدارته بشكل دائم. نقلا عن الأهرام أون لاين