جريمة فى شهر العسل إحصاءات صادمة للعنف الأسرى لم تعد حوادث قتل الفتيات حديثات الزواج مجرد أخبار عابرة فى الفترة الأخيرة، بل صرخات مكتومة تخرج من خلف الأبواب المغلقة، تحمل فى تفاصيلها وجها قاسيا لأشخاص فى المجتمع يخلطون بين الشرف والعنف، وبين الستر وإهدار الحياة.. القصص تبدأ بزواج متعجل وتنتهى بجريمة، تتداخل فيها مفاهيم خاطئة عن الرجولة والطاعة، ويغيب فيها الوعى والدعم والحماية، لنصل فى النهاية إلى أزمة أعمق تتجاوز الأفراد وتمس الضمير.. فى هذا التحقيق نسلط الضوء على جرائم مروعة تعرضت لها فتيات حديثات الزواج، تكشف عن خلل عميق فى منظومة اجتماعية فى قرية الفيما بأسيوط، عريس اسمه محمد قتل عروسه أزهار، صاحبة ال16 عاما، فى «الصباحية»، وفصل رأسها عن جسدها، وهرول إلى والده ممسكا برأسها وهو يصيح: «مشوفتش دم»!، فيما أثبت تقرير الطب الشرعى أن الفتاة بريئة، وأنها مازالت عذراء والمحكمة حكمت بإعدامه. ضحية أخرى فى المنوفية، صرح محامى أسرتها بأن التحقيقات كشفت عن تفاصيل شديدة الخطورة لما جرى داخل بيت الزوجية، مؤكدا أن الوصف القانونى لما حدث لا يندرج تحت مسمى «ضرب أفضى إلى موت»، موضحا أن الواقعة تشكل جريمة قتل عمد مقترنة بجناية إجهاض، ولا يمكن اعتبارها لحظة غضب عابرة، بل جريمة مكتملة الأركان ارتكبت بقصد واضح، وبوحشية شديدة، وبسلوك إجرامى متكرر، والزوج اعترف أمام جهات التحقيق قائلا: «أنا ضربتها وماتت فى إيدي»، إلا أن تقرير الطب الشرعى كشف الحقيقة الكاملة لحجم الاعتداء، حيث أثبت وجود كسر فى إحدى عظام القفص الصدرى ناتج عن ضربات قوية بالقدم، ما أدى إلى نزيف حاد فى الرئتين وانتهى بتوقف عضلة القلب. ووفقا لآخر مسح صحى للأسرة المصرية قام به الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فقد ذكر أن ثلاثا من بين كل عشر سيدات سبق لهن الزواج فى الفئة العمرية من 15 إلى 49 سنة تعرضن لصور عنف من قبل الزوج، وذكرت 26% أنهن تعرضن للعنف الجسدى، و22% للعنف النفسى، و6% تعرضن للعنف الجنسى، وأكثر من واحدة من بين كل ثلاث سيدات تعرضن للعنف الجسدى أو الجنسى من الزوج أُصبن بأذى نتيجة للعنف، و9% حدث لهن جروح أو إصابات خطيرة، وأقرت 6% من السيدات بأنهن تعرضن للعنف الجسدى خلال فترة الحمل. حوادث الصرخة عبير سليمان، الباحثة فى شئون المرأة، تقول إن هناك العديد من العوامل تسببت فى الحوادث التى تتعرض لها الفتيات مؤخرا، خاصة صغار السن والمتزوجات حديثا، أولها السرعة الشديدة فى إتمام الزواج وتقليل مدة الخطوبة، وعدم التدقيق فى الشخص الذى ستتزوجه الفتاة، فالكثير من العائلات تريد أن تتخلص من العبء المادى للفتاة، حيث رغبة بعض العائلات فى «ستر» بناتهن اعتقادا منهم أن هذا أفضل ويضمن مستقبلا أفضل، وهى ثقافة شعبية خاطئة تماما ومنتشرة بين الطبقة الاجتماعية الأكثر فقرا. وللحد من هذه الظاهرة يجب ألا نكتفى بالتوعية فقط، ولكن بتوفير دعم شعبى وتكافل اجتماعى ودعم للفتيات الصغار اللاتى لا يعملن ولم يكملن دراستهن، وتوفير ذمة مالية منفصلة لهن بحيث تكون الفتاة قادرة على رفع العبء عن أسرتها، ولا تنتظر رجلا يأخذها ليرفع عبئها عن أسرتها ويشعر بأنه اشتراها، كما حدث مع فتاة المنوفية التى ثبت أنها تعرضت للاغتصاب الزوجى، ما تسبب فى حدوث نزيف أدى إلى وفاتها بعد ذلك، وهذا نتيجة الجهل الذى يعانى منه زوجها، فهو يعيش معها ليس بالطريقة التى أمر بها الله، وهى السكن والمودة والمعاملة الحسنة. وتضيف: «أسباب هذه الجرائم متعددة مثل الجهل، والزواج المبكر، وعدم التوعية للفتاة، وعدم إدراكها لمعنى الزواج، وعدم معرفتها بأصل الشخص الذى ستتزوجه، وعلى الهيئات والمنصات الإعلامية والنخبة المثقفة أن تقوم بحملات متكررة خاصة بتوعية الأهل عن كيفية تعليم بناتهم كيفية الاختيار بشكل صحيح».. تطالب عبير بضرورة رفع سن الزواج إلى 21 عاما، فسن ال18 تعتبر الفتاة فيه قاصرا لا تعلم معنى المسئولية والزواج، ولا تعرف كيف تحمى نفسها، وحوادث الصرخة التى تحدث حاليا لابد أن تكون جرس إنذار للمجتمع حتى يستفيق ولا يلوم الفتيات فهن أمهات المستقبل، وإذا كن منكسرات سيخرج لنا جيل مهلهل ناقص تربية، مشوه ومنكسر نفسيا. بضاعة لم تمس! من جانبها ترى د. هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية، أن هناك الكثير من المعلومات كان يجب أن تنتشر فى المجتمع، ولكن هذا لم يحدث للأسف، وهى أن الناس اعتادت تاريخيا على فكرة وجوب رؤية الدماء ليلة الفرح حسب عادات القرى، حتى تتفاخر العائلات بأن ابنتهم بكر، والكثير منهم لا يعلمون أن الدم الذى يتفاخرون به ليس هو الدليل على أن ابنتهم كانت عذراء، وأن عدم رؤيته لا يعيب فى أخلاق الفتاة، فهناك الكثير من الأسباب التى تمنع رؤية الدم فى ليلة الدخلة.. وتوضح: «العذرية كانت مرتبطة قديما بفكرة الملكية، ويقال الرجل «اللى آنيها» أو الذى يقتنيها، فوفقا للموروث القبلى تم تقسيم الأدوار بين الرجل والمرأة فيجب أن تكون المرأة بضاعة لم تمس من قبل وليست إنسانا، وأصبحت فكرة الملكية لجسد المرأة مسألة قديمة، وكان من النادر أن يتزوج الرجل من امرأة مطلقة مثلا، وسارت العذرية موضوعا حساسا ومزعجا، والطب كشفه، لكن التعامل الاجتماعى الثقافى معه فى الريف ومعظم المناطق الشعبية لا يزال فى الاعتقاد القديم.. وتؤكد: «محاربة الظواهر القديمة يجب أن تكون بالعلم والثقافة وسؤال المتخصصين، ويجب وجود توعية شاملة لكل ما يخص الحياة الزوجية، وليس عيبا نهائيا أن يذهب الشباب للطبيب قبل الزواج حتى لو كان من ناحية الاطمئنان على استعداده للإنجاب».. وأرجعت د. هدى انتشار هذه الجرائم فى المجتمع إلى وجود ثقافة جنسية مغالطة للحقائق الطبية، فهناك ثقافات سائدة ترسخ للمفاهيم القديمة، ومن المهم أن تخضع هذه الأمور بشكل كامل للتدخل الطبى قبل كتب الكتاب، ولذلك صدر قانون بضرورة الفحص قبل الزواج، ويجب توعية الفتيات والشباب بقيمة الحياة الزوجية، بالإضافة إلى التربية الجنسية منذ الطفولة، وهى مسألة فى غاية الأهمية، وهى التى تساعد الأطفال على ممارسة الحياة بشكل طبيعى وقت الزواج. منظومة اجتماعية وثقافية مضطربة وترى د. مروة شومان المعالج والاستشارى النفسى، أن انتشار جرائم قتل الفتيات فى بداية الزواج، بذريعة الشرف أو الشك فى العذرية، لا يمكن فهمه بوصفه مرضا نفسيا بقدر ما هو نتاج منظومة اجتماعية وثقافية مضطربة، فالغالبية العظمى من هؤلاء الرجال لا تعانى من اضطرابات عقلية تفقدهم الوعى أو الإدراك، بل يدركون أفعالهم ويعرفون عواقبها، لكنهم يتحركون داخل إطار فكرى يبرر العنف ويمنحه شرعية زائفة، ونحن هنا أمام قتلة مسئولين قانونيا وأخلاقيا، لكنهم فى الوقت نفسه أبناء ثقافة تربط الرجولة بالسيطرة، وتختزل الشرف فى الجسد، وتضع سمعة العائلة فوق قيمة الحياة الإنسانية.. وتعتقد أن القتل أصبح سهلا لأن المجتمع فى كثير من الأحيان يقدم له غطاء ضمنيا، فالعار يصور كشيء أسوأ من الجريمة، والفضيحة أخطر من إزهاق روح، كما أن الخطاب الذكورى السائد، الذى يردد عبارات مثل «لو مضربتش مراتك تبقى مش راجل»، يخلق ضغطا نفسيا هائلا على الرجل الهش أصلا، فيدفعه إلى العنف. انفلات عقلى وعن الظاهرة يقول د. على النبوى، أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر، إن مثل هذه الحالات تخضع لظروف خاصة بكل منها، ولكن يمكن تفسير ذلك من منظور التحليل النفسى بأن الانفلات السلوكى الحاد قد يكون وليد اللحظة لدى الأشخاص المحتقنين بالأفكار الخاطئة التى تسيطر عليهم، وتنعكس فى المواقف المختلفة، ومنها الاعتداء على الزوجة، لأنها ترسخت فى اللاوعى بأفكار مثل «يذبح لها القطة» و»يكسر لها ضلعا يطلع لها 24»، وكثير من الأفكار التى ترسخت فى ذهنه، أو من ضعفه النفسى الشديد الذى ينعكس فيخرج فى هيئة عنف أشد كى يعوض ما يشعر به من نقص داخلى، وبعضهم يعانى من اضطرابات فى الشخصية مثل السمات السيكوباتية والنرجسية وينفجر فى غضب غير محكوم. ويشدد النبوى على ضرورة الأخذ فى الاعتبار تعاطى المخدرات الحديثة، لأنها منتشرة بين الشباب، ويعتقدون أنها تحسن حالتهم الزوجية، ولكن يحدث العكس فتسبب لهم ضلالات فكرية وأوهاما تجعلهم يتصرفون بعنف، ومن الظروف البيئية عدم تربية الشاب على تحمل المسئولية، فمن يكد ويتعب فى تجهيز عش الزوجية يقدر هذه الحياة ويحترمها، لكن من يوفر له أهله الزواج ولم يتعب فيه سيكون من السهل عليه العنف والتذمر وهدم حياته بقصد أو بدون.. وقد يكون من قبيل الإزاحة النفسية، فبدلا من مواجهة مشاكله الحقيقية يتحول إلى الزوجة الضعيفة ويمارس ضدها العنف الشديد، وقد يتوتر الزوج أثناء الخلاف مع الزوجة ويتصاعد العنف بدون قصد من البداية، لكن بعد الشجار يحدث انفلات عقلى ولحظة جنون تجعله يفعل أبشع الجرائم، لأنه غير قادر على التصرف بحكمة أو ضبط انفعالاته فهو لم يتدرب على ذلك. تغليظ العقوبات وتنادى سهير زيدان المحامية بالأحوال الشخصية، بتغليظ العقوبات على المحرضين من الأهل والجيران والأصدقاء، فهذا يعتبر تحريضا مجتمعيا يجب معالجته، وفيما يخص حادث المنوفية الأخير تقول: كان الحادث قتلا عمدا، فهو يضرب ليقتل، ووالدته أغلقت عليهم الباب، فهى جريمة مشتركة بينهما، بالإضافة إلى عقوبة أخرى يجب أن توقع عليه وهى الإجهاض، وهذا لا يطلق عليه ضرب أفضى إلى موت، فقد ظل يضرب حتى أصبحت جثة بين يديه وهى غير قادرة على الخروج.. وعلى أهل الفتاة دور كبير، فكيف تستنجد بهم ابنتهم بعد أن تم ضربها وإهانتها ويعيدونها له مرة أخرى؟ فعليهم حماية ابنتهم قبل أن تعود لهم وهى جثة.. وهناك اتجاه آخر بأنه لا بد من تذكير المجتمع بالأدب والتربية والشرع والدين، فالرجل لا يشترى عاملة تعيش معه فى البيت، ولكنها زوجة والدين يفرض على الرجل أن يحضر لزوجته خادما. إعادة القضاء الشرعى وعن فقه الحياة الزوجية يوضح د. أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر أن حسن معاشرة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها واجب شرعا، وقال الله عز وجل: «وعاشروهن بالمعروف»، وقال: «ولهن مثل الذى عليهن»، وقال سبحانه وتعالى: «الرجال قوامون على النساء»، وقال سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، وقال: «ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهان النساء إلا لئيم». وفى التشريع الإسلامى توجد تدابير احترازية وقائية، وهى التوعية المكثفة من المؤسسات الدعوية؛ المساجد للمسلمين والكنائس للمسيحيين، والمؤسسات التعليمية من المرحلة الابتدائية حتى أعلى الهرم التعليمى وهو الدراسات العليا، والمؤسسات الإعلامية من خلال التوعية بواسطة العلماء المتخصصين فى هذا الشأن.. ومن ضمن التدابير الاحترازية الوقائية ألا يسمح بإبرام عقد زواج إلا بعد أخذ دورة تأهيلية فى الحقوق والواجبات الأسرية، على أن تكون إلزامية، وهى أولى من شهادة طبية صورية بالخلو من الأمراض. ويضيف: «يجب تطبيق القصاص، فقد قال الله سبحانه وتعالى: «النفس بالنفس»، وقال: «ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب»، إذا تم إعدام شخص لأنه قتل زوجته فسيكون تطبيقا لقول «فَقَسَوا عليهم ليزدجروا»، وسيخاف البقية أن يكرروا هذا الفعل، وختاما يرجو د. كريمة إعادة القضاء الشرعى مرة أخرى كما كان، ليختص بشئون الأسرة فقط وفصله عن الدعاوى المدنية.وثقافية ما زالت تبرر العنف ضد المرأة تحت مسميات الشرف والستر والطاعة، وتطرح تساؤلات ملحة حول دور الأسرة والمجتمع والقانون فى حماية الفتيات، وضرورة مواجهة الجهل والزواج المبكر والتفسيرات المغلوطة للدين بعلم وتوعية وتشريعات رادعة.