حوار: حسين الجفال مهدي سلمان الذي يُصر أن« الخراب هو سيد الكون» ينطلق في قصيدته بؤس الشاعر إلى استشراف أبعاده الأخرى في «صيحة البابلي» الذي تأمل قبل أن يقرأ و كتب أسطورته على سبيل المحاولة لتقديم ذات مغايرة ربما تعيش حياة موازية خارج النص؛ لذلك لا يُعوّل على النقد ليس لعدم ثقته بالنظريات لكن إذا لم يحضر الناقد بروحه قبل معاوله لترميم البناء اللغوي فلا قيمة لإصراره على الهدم حيث سيكون عاجزا عن إعادة تشكيل جماليات الشاعر مع كل رهاناته على إنجاز نص ملحمي يستغرق منه زمنا طويلا إلا أن ذائقة المتلقي تسمو بأجنحتها في فضاءاته حتى لو كانت قصيرة المدى، يكفى أن يغربل الرماد، حتى لو لم يخرج طائر الفينيق هناك ألف أسطورة تتداعى وراء النص و على القارئ أن يستعد لاختطافها ... معه لا مع غيره تمتد المعركة بانتصاراتها وهزائمها كما يقول. مهدي سلمان الشاعر والمسرحي الذي يعمل في المجال الثقافي مع الأصدقاء والمهتمين، عمل بالمسرح والسينما، له اكثر من عشرة دواوين منها: «هاهنا جمرة، وطن، ارخبيل»، الذي حاز على جائزة التميز في الشعر من وزارة الإعلام البحرينية، «السكك، البصارة»، « السماء تنظف منديلها البرتقالي»، «أخطاء بسيطة»، «غفوت بطمأنينة المهزوم» وغيرها . يعد سلمان من أهم التجارب الشعرية في البحرين والخليج، كتب ومثل وأخرج العديد من المسرحيات وقدم الكثير من الورش في هذا المضمار وها نحن نحاوره في الديوان الذي صدر مؤخرا ووقعه في معرض الكويت الدولي للكتاب قبل أيام. «صيحة البابلى» تأتى محملة بإرث الإنسان وحمله الذى ترسب فيه، ما الجدوى من الصيحة بعد انهيار الجسد؟ - لا يبحث الشعر عن الجدوى المباشرة، إنه يقرأ القيامة نفسها، وكأنه يراهن على أن الجسد، يمكن له التشكّل بعد البعث، أو على الأقل على أن قراءة القيامة، تقرير أخير للبابلي، استخلاص للتجربة تقدّم للفراغ أو للعدم، لا يهم، لكن إن شئت، يمكن فى الوقت ذاته، الشعور الطفيف، بأن الصيحة التى تقدّم فى صورة انهيار، هى بداية جديدة لنا ليستطيع أحدنا أن يفهم الآخر، ويستوعب ما يقوله، هى بداية للغة مختلفة، ليست قائمة على الحروف والمفردات، بل ترتكز على الحواس الأخرى للإنسان، تلك التى أهملها حين وجد نفسه قادرا على (الكذب) الذى وفّرته له اللغة، اختار الإنسان الكذب فى البداية، لكنه بعد ذلك صار قرين اللغة، الكذب هنا، يمكنه أن يكون تحريفا، إخفاءً، تغافلا، أو بلبلةً، لقد أعطتنا اللغة فرصة التحديد، لكنها سلبت منا طاقة التجريد على اختزال المشاعر، الأفكار، الهواجس، الحدس. ربما يكون انهيار الجسد الذى يشير إليه السؤال، انهيارا للبناء اللغوى الراهن للإنسان، وبالتالي، فهو سبيل جديدة لبناء آخر من اللغة، بناء لا يحوّل المخاوف، القلق، الحذر، إلى كلمات ذات شكل، وبالتالى ذات طبيعة مادية صرفة تتطلب القيام بفعل نابع منها، يقود نحو التوحّش، بهذه الدوافع، ابتكر الإنسان اللغة فى محاولة لتفسير شيء لا يفسّر، والاقتراح الآن هو لغة أخرى، تدع مجالا لهذا الأمر غير القابل للتفسير لأن يأخذ شكله التجريدي، دون عبء شرحه، دون عبء القيام بفعل فى مواجهته، كأن نكتفى بالنظر إليه، والشعور به، دون تحديد ماهيته. الكثير من الصور ترسم نفسها ونحن نقرأ «صيحة البابلي» هل كتبتها للمسرح، أم هى قراءة لمسرح الحياة الذى نعيش؟! الكتابة فى مجموعة مثل هذه صعبة، خصوصا على شخص مثلي، إذ كيف يمكن لكائنٍ شغلته المادة -بصرية كانت أو سمعية- أن يفكر فى المجرّد، عليه أن يخوض التجربة بكل تفاصيلها، وبكل تناقضاتها، وبكل إرباكاتها، هنا يمكن أن تكون مادتى فى التفكير هذا، هى الاقتراب من الصورة، الصورة الجامدة، أو المتحركة، اللوحة أو المسرح، الحياة التى نعيشها أو تصوّراتنا عنها، وربما أضيف كذلك للسؤال، القراءة باعتبارها معادل آخر للحياة وللمسرح، أى للوجود وللفن الذى يعبّر عنه، للتاريخ، ولترميزاته فى الحياة الآن، أنا أختار الصور بكل أشكالها التى ذكرتُها، لأنها وسيلتى الوحيدة للإشارة إلى ما أودّ شرحه، ولأن المجموعة التى تحاول أن تقول إنها تقترح لغة خارج سياق المفردات، رغم أنها لا تعرف ما هي، لغة لا تعتمد على الشرح، أو التفسير، بل تعوّضه بالصمت، أو تعوّضه بالنظر والتحديق، والثقة، فقد تكون الصورة البعيدة، وكذلك الصوت المطلق، هما أقرب ما أخذنى إليه حدسى للتعبير عن ذلك. «صيحة البابلى» تعيد استخدام الرمز والقص بعد غياب الرمز فى النص العربى (عند الشباب) إلى اى حد ممكن أن يكون الرمز ضرورة شعرية فى زمن اشتد فيه الوضوح؟! - لا أظن الرمز يمكن أن يختفى طالما هنالك فن، إنه يتخفى فقط، ويأخذ أشكالا أخرى قد يكون رصدها عسيرا، يجرّب الشعراء الشباب اليوم فى الرمز، بطرق أخرى، قد لا يستطيعها الجيل الأكبر، وقد لا يستطيبها، لكنها حاضرة وخاضعة لتجريب مختلف، فهى رموز فى نقاط محددة من المعطيات سواء كانت أساطير أو حوادث تاريخية، رموز لا يهمها أن تذكر معادِلاتها، ولا أن تحدد مصادرها، وقد يكون الشاعر نفسه لا يُدرك من أين استقاها، ولا يعنيه، لأنه يذهب لأبعد من وضعها فى إطار الرمز والمرموز والمرموز إليه، بل يلعب بمجموعة منها، يأخذ قطعة من هنا وهناك، هذا عمل جديد فى الرمز، لأنه يجعل فعل الترميز نفسه رمزا لأمر ما، لذلك قد تبدو القصيدة التى تُقرأ، يومية، عادية، واضحة أو غامضة، لكنها لدى التعمق فى قراءتها، استحضار مختلف لمفهوم الرمز. أعتقد أن تطوّر القراءة، والكتابة واتساعها، واتساع فعل الشعرنة، ومفهومه، هو ما أحدث هذه القفزة فى تناول المفاهيم النقدية السائدة فى النصوص الجديدة، وهى قفزة تحتاج إلى قراءات لإدراك آليات عملها، وأظن أننى فى هذا النص، حاولتُ الاقتراب من هذا الفهم المختلف لفكرة الرمز، وكذلك لفكرة القص، لكنى اشتغلتها بالطريقة القديمة، لهذا سيكون واضحا للقارئ، أننى أذكر بابل، أذكر، القيامة، أذكر الشخوص والحوادث فى أساطير أو أزمنة، لكنه فى المقابل، لن يُخضعها لجدول المعادِلات السابقة، بل ربما يضع لها جدولا جديدا، تتجمع فيه هذه الرموز نسبة إلى ما تثيره لا إلى ما تنبئ عنه. لماذا بابل دون المدن، ولماذا الشفاه / الصمت؛ أهى صرخة الكون/ الإنسان الأزلية؟! بابل كانت الباب الأول، الفاصل بين الإنسان القادر على فهم نفسه، وبين فكرة الوحى الغيبية، إنها مدخل فهمنا للغة، وفهمنا لعلاقة اللغة بفكرة الفطرة، وفكرة العبادة، أو الخضوع، بالإرادة أو الاختيار، الفكرة فى المرويات القديمة، وكذلك فى النصوص التالية التى تناولتها، ومنها النصوص الشعرية، غنية جدا، لأنها تنفتح على اللحظة الفارقة بين القول واللغو، وربما أكون انطلقت من فكرة مختلفة، حيث بابل التى عرفت اللغة لديّ، ليست بابل التى نطقت، بل التى صمتت، واللحظة التى شقّ فيها فم الإنسان، وأعطى اللسان، هى اللحظة التى انهارت فيها بابل، لا العكس، لذلك تحضر الشفاه فى النص كمعادل للغو، كمعادل للقول الذى لا ينتج معنى، وكذلك للقول الذى يؤسس فكرة الشر، وهنا يمكن العودة لفكرة كيف دفعت مشاعر مثل الخوف، القلق الغامض، الإنسان إلى ارتكاب أفعال، كل ما يقصده منها كان التعبير عن خوفه هذا، بلغة لم تكن مهيئة لشرح مثل هذه المشاعر. يا طريق/ ما الذى سوف تفضى إليه؟ يا طريق تعبنا. إلى أين وجهتك والخراب سيد الكون يا سلمان؟! لستُ سوى خلية بسيطة فى جسدٍ عملاق، لا أقرّر مصير هذا الكون، ولا أحدّد وجهته، لكن كل ما أقوم به، مهما كان بسيطا، له دور فيما إن كان الخراب هو سيد الكون أم لا، وذلك عزائي. يقول بعض النقاد بأن الشعر وليد الانتصار وأن الرواية بنت الهزائم؛ هل أنت مع هذا القول أم لك رأى آخر؟ إطلالة بسيطة على ما هو موجود اليوم، تكشف أن هذه عبارة سطحية، لا تأخذ بعين الاعتبار، أن الشعر كان حاضرا فى الهزائم كما حضوره فى الانتصارات، وأن الرواية كذلك، حاضرة فى الحالين، الشعر والرواية والمسرح، الفنون بعمومها، هى ابنة الوعي، وغياب الوعي، هو الذى يجعلها تتدهور، والذى ينظر لحال الفنون فى العالم اليوم، يدرك تراجع الوعي، أو تذبذبه على الأقل، تظهر الفنون بقوة، حين يعى إنسان عصر ما مشكلاته فى الحياة ومعها، حين يعى إشكالية علاقته بالوجود، ويناقش ذلك، وتتضافر الفنون مع بعضها، حين يزيد الوعى الجمعي، وتنفلت عن بعضها، وتتقطع الطرق فيما بينها كلما قلّ هذا الوعى الجمعي. لا أظن أن ثمة اليوم انتصارات حقيقية أو هزائم حقيقية، إننا فى لحظة تاريخية، تمتد فيها المعركة بأشكالها المختلفة منذ سنوات، وامتداد المعركة، يعنى أن لا حسم هناك، لكن بالتأكيد هنالك لحظات وعى مقبلة على العالم، وذلك ما أحسبه سيغيّر من النظر إلى الفنون فى القريب، أظنه يتشكّل على مهل، لكنى لا أحسم اكتماله. إلى اين يأخذك الدرب، باب موصد أم نافذة تطل على حدائق معلقة؟! هنا وهناك، فى الباب الموصد قد توجد نافذة، والنوافذ المطلة على الحدائق، قد تفضى إلى أبواب مغلقة، إننا نواجه الحياة ونعيشها ونفكر فيها ونراقبها، وذلك فعل (حدائقي)، حي، نابت، ولكننا فى الوقت ذاته، ننغمس فى أحيان أخرى، نهمل، نخمل، وذلك فعل موصد، أنت توقظنى بهذه الأسئلة، وأنا أفتح لك نافذة بالإجابات، وربما يمرّ قارئ ما عليها، فتخضرّ أجابات مهملة على ورقة، وتنمو لها أغصان، ذلك فعل الحياة، ذلك تشابكها. «صيحة البابلى» عمل ملحمى طويل فى زمن يهرب القراء للنص القصير ؛ ألا تعد هذه مغامرة محفوفة المخاطر؟ القارئ القارئ لا يهرب فى مواجهة النص الطويل، أو النص الشعرى الطويل، إن أردنا أن نكون أكثر تحديدا، بل يدفعه ويندفع باتجاهه، لكن ما يحدد عمق فعل القراءة، ليس طول النص أو قصره، بل قدرة هذا النص على أن يأخذ القارئ نحو المساحات التى يشتبك فيها مع أفكاره حول الحياة، الفكرة فى أن النص هو نقطة التقاء بين طرفين، شاعر كتب النص، وقارئ يلتحم به، وفى وقت مثل الذى نحن فيه، كتابة القصيدة قد تكون مغامرة، إن كانت تبحث عن قارئها فى غير عوالمها، وكتابة القصيدة الطويلة، بهذا المعنى، ليست إلا إيغال فى مغامرة فاسدة من الأساس، لكن إن وجد النص قارئه، فلا مغامرة هنالك، إن كانت المغامرة تعنى الإهمال، لكن إن كانت تعنى الاشتباك، فالقصيدة تبدأ مغامرتها حين تُقرأ. قدمت هذا العمل فى أمسيات متعددة الاماكن والبلاد، كيف وجدت تلقى النص جماهيريا؟ «صيحة البابلى» ليس نصا جماهيريا، إنه نص يُقرأ للتأمل، والتفكير، للتعليق أو التعالق، لكنى أجد أن الاجتهاد فى تقديم الشعر بالعودة إلى جذوره المسرحية، بشكل يقترب من المسرح، فعلٌ فنى آخر، يضيف إلى النص الشعري، نحن اليوم بحاجة إلى تماس الفنون، بحاجة إلى تقديم الشعر فى شكل مسرحي، يمكن أن يصحب بالفنون التشكيلية، والموسيقى، هذا الفعل يثرى العمل الفني، ويثرى العلاقة بين الجمهور والمبدع، وبالعودة إلى سؤالك حول الأشكال الفنية، فإن عزل شكل ما عن الآخر، هو دلالة على عجز فى الوعي، وتعالق هذه الأشكال، اشتباكها، نقاشها داخل الأطر الفنية، يؤكد على هذا الوعي، ينميه، ليس فقط عند مبدع العمل، بل أكثر عند متلقيه، التلقى الجيد الذى حظيت به أمسيات «صيحة البابلي» كانت تعبيرا من هذا الجمهور عن فهمها لإشكالية الجزر المعزولة التى تجد الفنون نفسها فيها اليوم. مهدى سلمان وأعماله لم تجد عناية نقدية على مستوى البحرين والخليج؛ إلى أى حد هذا الكلام صحيح؟ وهل تجد توقف النقاد بمنجزك يفيدك؟ ليس هنالك عناية نقدية، لا لنصوصى ولا لنصوص سواي، منذ بداية الألفية، والجميع يتحدث عن غياب النقد، وتحوّل النقد الجاد إلى النقد الثقافى، وتحوّل النقد الأدبى إلى القراءات والمطالعة، وقد يكون هذا طبيعيا، بالنظر إلى أن المشروع الأدبى الجامع الذى يجعل المسارات النقدية تشتبك بالشعرى والسردي، غير موجودة، فى مقابل، انفتاح مساحات الاشتغال فى النقد الثقافى، وكما قلنا عن الوعى الجمعى الذى يجعل القارئ (العام) ينخرط فى مشروع ما، يحدث هنا، إن لم يكن هنالك مشروع عام، فلن يكون هنالك نقد، وحتى النقد الذى يتناول تجربة ما بشكل منقطع عن كونها مشروع ممتد، لن يكون غير مطالعة، أو قراءة عابرة. ليس مهما منجزى أو منجز سواي، بقدر ما هو مهم أن يكون هنالك نقد أدبى حقيقي، قادر على أن يكون حاضرا حتى فى حال الخذلان الشعري، إن وظيفة النقد الأدبى الأولى، هى التنبيه إلى الغياب، والنقص، سواء فى مشروع الفرد، أو فى المشروع الجمعي، وغياب النقد نفسه، هو إشارة إلى هذا الغياب والنقص، ليس فى جسد الأشكال الأدبية، إنما فى جسد الحالة الثقافية بعمومها، فليس من علامات صحة ثقافة أمة، أن تكون قادرة على تشريح نكت المقاهي، وتعجز عن تشريح أدبها.