أطلقت مصر على هذا التحرك «العدوان الثلاثى على مصر» بينما تُعرف هذه الحرب فى المصادر الغربية بحرب السويس . تهل علينا هذا الشهر ذكرى «عيد النصر» 23 ديسمبر 1956. ولا أُبالغ إذا قلت إن أغلبنا لم يعد يذكر هذا التاريخ، بل أزعم أن الأجيال الشابة فى مصر ربما لم تسمع عن هذا التاريخ، بل وربما يمر علينا هذا اليوم مرور الكرام، بل ربما نهتم أكثر بمن تزوج من، أو من انفصلت عن زوجها! ربما يمكن تفسير ذلك بحالة «الأمية التاريخية» التى سادت فى مصر للأسف الشديد، وانصراف وسائل الإعلام عن الاهتمام بالذاكرة الوطنية. وحتى المدارس لم تعد تهتم بالحفاظ على الذاكرة التاريخية وإنعاشها، خاصةً عبر ما كان يسمى بالإذاعة المدرسية فى طابور الصباح، أو حتى مجلات الحائط المدرسية. وبطبيعة الحال لا نستطيع تجاهل أثر الأزمة الاقتصادية فى انصراف اهتمام الناس إلى البحث عن «لقمة العيش». ولكن ربما يرجع ذلك إلى علة من علل السياسة المصرية، ألا وهى عدم احترام الأعياد القومية، وإلغاؤها أحيانًا، خاصةً مع تغير النظام السياسي، أو مع وقوع حدث تاريخى جديد، أو حتى تحجيم العيد القومى الوطني، بجعله عيدًا لمحافظةٍ ما، وأثر ذلك على الهوية المصرية والذاكرة الوطنية، وبعد ذلك نسأل عن ضعف الانتماء لدى قطاعات عريضة من الشباب. لا أدرى متى تم إلغاء 23 ديسمبر «عيد النصر» كعيد قومى وإجازة رسمية فى مصر، وتحجيم هذا اليوم التاريخى وجعله اليوم الوطنى لمحافظة بورسعيد. بالقطع دارت فى شوارع بورسعيد معارك مهمة للمقاومة الشعبية ضد العدوان، ولكن هل نسينا أن العدوان لم يقتصر على مدينة بورسعيد فقط، ولكن شمل أيضًا قطاع غزة الذى كان تحت الإدارة المصرية منذ حرب فلسطين 48، كما شمل أيضًا شبه جزيرة سيناء. وربما يجرنا ذلك إلى مسألة غاية فى الأهمية والحساسية فى تاريخنا المعاصر، وهي: من يملك سلطة إلغاء أحد الأعياد القومية، أو حتى تحجيم هذه الذكرى التاريخية؟ وكمؤرخ أتساءل لماذا نعتدى على أعيادنا القومية بالإلغاء والتحجيم، وأحيانًا التهميش؟ أتذكر زيارتى الأولى لفرنسا، وكم كانت دهشتى عندما رأيت فرنسا كلها تحتفل بيوم 11 نوفمبر، لأنه يوم نهاية الحرب العالمية الأولى فى عام 1918؛ إذ اعتبرت فرنسا هذا اليوم عيدًا قوميًا وإجازة رسمية، احتفالًا بنهاية الحرب وعودة فرنسا الحرة. ولم يملك أحد، ومع تغير وتعدد الجمهوريات الفرنسية، الحق فى إلغاء هذا العيد القومي، رغم مرور أكثر من قرن على هذا الحدث. والشيء بالشيء يُذكر، وبعد يومين من التاريخ السابق ذكره، أى فى 13 نوفمبر 1918، شهدت مصر الحدث الجلل الذى غيَّر تاريخها، عندما ذهب سعد زغلول ورفيقاه إلى المندوب السامى البريطانى فى مصر، لطلب السفر إلى أوروبا لبحث استقلال مصر، وأدى رفض المندوب السامى لهذا الطلب إلى سرعة اندلاع ثورة 1919 فى شهر مارس. وبعد نجاح الثورة أصبح يوم 13 نوفمبر هو «عيد الجهاد الوطني»، ولا أدرى لماذا ألغينا هذا العيد، ولم تلغ فرنسا حتى الآن عيدًا يعود إلى نفس التاريخ تقريبًا؟! إن المنطق فى فرنسا يقول إن الأعياد القومية ليست أعيادًا خاصة بنظام أو جمهورية معينة من الجمهوريات الفرنسية، بل هو عيد كل الفرنسيين، عيد للأمة الفرنسية، لا يملك أحد تغييره. فمتى نصل إلى هذا المنطق، ونحافظ على أيامنا الوطنية وتاريخنا القومي؟
لكن السؤال الآن ما حكاية عيد النصر فى 23 ديسمبر 1956، وماذا حدث لمصر وللمصريين فى هذه الأثناء؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا العودة قليلًا إلى ما قبل هذا التاريخ، وعلى وجه الخصوص إلى اليوم المشهود 26 يوليو 1956، عندما أعلن الرئيس عبد الناصر كلمته المشهورة فى الميدان بالإسكندرية، بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس، شركة مساهمة مصرية. والحق أن عودة قناة السويس إلى الإدارة المصرية كان حلمًا وطنيًا لمصر والمصريين منذ فقدت مصر آخر أسهم لها فى شركة قناة السويس؛ إذ رفض الزعيم الوطنى محمد فريد فى مطلع القرن العشرين مشروع مد امتياز قناة السويس، لما بعد المدة المقررة، وأعلن أن الأجيال القادمة لن تغفر لنا، إذا وافقنا على مد الامتياز، وأن مصر كلها تتطلع إلى اليوم الذى تعود فيه القناة للمصريين. وبالفعل أدى هذا الموقف إلى إفشال مشروع مد الامتياز. تأميم القناة وفى عشرينيات القرن العشرين، ومع تأسيس أول حزب شيوعى مصري، كان أحد أهم مبادئ هذا الحزب هو تأميم قناة السويس. كما طالب الحزب الوطنى المصري، وزعيمه حافظ رمضان بالعمل على البدء فى إجراءات تؤدى إلى تأميم القناة وسرعة عودة القناة لمصر والمصريين. كما بدأ الشاب المصرى «مصطفى الحفناوي» فى إعداد رسالة دكتوراة فى فرنسا حول حقوق مصر فى قناة السويس، وقد تم الاستعانة بالحفناوى بعد ذلك فى معركة تأميم القناة. كما اهتم حزب الوفد بمسألة سرعة عودة القناة لمصر. من هنا كان قرار عبد الناصر فى حقيقة الأمر تجسيدًا للنضال المصرى من أجل القناة. وأدى قرار التأميم إلى أزمة دولية، وخاصةً أن عبد الناصر ربط بين قرار التأميم، ورفض البنك الدولى تمويل مشروع بناء السد العالي. ودارت جولات دبلوماسية فى محاولة للتخفيف من آثار قرار التأميم، والالتفاف عليه. لكن فى الوقت نفسه كان هناك اتجاه آخر تزعمته بريطانيا، وهو استخدام القوة المسلحة ضد مصر. وكانت بريطانيا فى حقيقة الأمر تدافع عن آخر أمل لها فى البقاء فى المنطقة، وأيضًا فى البقاء كقوة عظمى. وانضمت فرنسا إلى إنجلترا فى هذا الأمر، ولم يكن هم فرنسا هو الحفاظ على شركة قناة السويس، ودورها فيها فحسب، ولكن أيضًا إسقاط نظام عبد الناصر، الذى أعلن دعمه للثورة الجزائرية، وكانت فرنسا ترى -فى ذلك الوقت- أن الجزائر قطعة من فرنسا. وانضمت لهما إسرائيل التى بدأت تستشعر الخطر من النظام القائم فى مصر، لا سيما مع صفقة الأسلحة الشرقية التى عقدها عبد الناصر مع الكتلة الشرقية، وسُميَّت آنذاك بصفقة الأسلحة التشيكية. من هنا وقعت الحرب فى 29 أكتوبر 1956، حيث قامت بريطانياوفرنسا باحتلال مدينة بورسعيد، المدخل الشمالى لقناة السويس، وقامت إسرائيل باحتلال قطاع غزةوسيناء، ووصلت إلى الضفة الشرقية لقناة السويس. وأطلقت مصر على هذا التحرك «العدوان الثلاثى على مصر» كناية عن اشتراك ثلاث دول فى الاعتداء على البلاد. بينما تُعرف هذه الحرب فى المصادر الغربية بحرب السويس. نصر سياسى ودبلوماسى والحق أن هذه الحرب كانت هزيمة عسكرية لمصر. وهو أمر طبيعى فى حد ذاته؛ إذ كيف تستطيع مصر منفردة مواجهة جيوش ثلاث دول؟ كما أن الجيش المصرى كان ما يزال فى مرحلة إعادة البناء، ولم يحصل على أسلحة منذ حرب 1948، إلا فى صفقة الأسلحة التشيكية، أى فى العام السابق على العدوان. لكن الحرب وإن كانت هزيمة عسكرية، إلا أنها كانت نصرًا سياسيًا ودبلوماسيًا؛ إذ ارتفعت شعبية عبد الناصر بعد هذه الحرب، ليس فى مصر ولا حتى فى العالم العربى فحسب، بل فى معظم دول العالم الثالث. كما كان هذا الحدث من المرات القليلة التى حدث فيها توافق سياسى بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، على ضرورة وقف الحرب، وانسحاب القوات المعتدية. وبالفعل صدر قرار دولى بذلك الأمر، مما اضطر القوات البريطانية والفرنسية على الانسحاب من بورسعيد فى 23 ديسمبر 1956، بينما تلكأت إسرائيل -كعادتها- فى الانسحاب من سيناء وقطاع غزة حتى العام التالي، أى عام 1957، حيث اضطرت إلى الانسحاب، مع منحها حق المرور فى خليج العقبة. هذا هو عيد النصر، 23 ديسمبر، الذى لم نعد نحتفل به كما يجب، بل ولم نعد نتذكر هذا التاريخ، الذى أصبح علامة مهمة فى التاريخ العالمي، بتراجع بريطانيا كقوى عظمى، وهو ما عُرف بقطع ذيل الأسد البريطاني، أو عودة القناة، وعودة حق شعوب العالم الثالث فى ثرواتها الوطنية. متى نحترم تاريخنا، وأعيادنا القومية، لأن هذا هو تاريخ كفاح الشعب المصرى .