■ كتبت: مي فرج الله في اكتشاف أثري يُعد أحد أبرز الاكتشافات الحديثة فى ولاية فرجينيا، أعلن فريق من علماء الآثار تحديد مواقع قرى تاريخية للسكان الأصليين من قبيلة راباهانوك، وهى القرى نفسها التي سجّلها المستكشف الإنجليزي جون سميث قبل أكثر من أربعة قرون فى إحدى أقدم الخرائط الاستعمارية للمنطقة. وجاء هذا الاكتشاف على طول نهر راباهانوك في منطقة نورثرن نِك بولاية فرجينيا، وهى أرض تُشكّل مركزًا تاريخيًا وثقافيًا لقبيلة راباهانوك، ومرتبطة بشكل وثيق بهويتها، وموطنًا لأجيال متعاقبة منذ ما قبل الاستيطان الأوروبي. ◄ 11 ألف قطعة أثرية تكشف ملامح مجتمع مزدهر قبل وصول المستعمرين تمكّن الباحثون من كلية سانت مارى فى ولاية ماريلاند من استخراج آلاف القطع الأثرية خلال الأشهر الماضية، شملت شظايا فخارية مزخرفة بدقة، وأدوات حجرية متنوعة، وخرزًا يعود إلى قرون مضت. وتتطابق أماكن العثور على هذه القطع مع مواقع المستوطنات التى ظهرت فى خريطة جون سميث الشهيرة الصادرة 1608، ما يقدّم أقوى دليل أثرى حتى الآن يؤكد صحة الروايات التى توارثتها القبيلة عن وجود مجتمعاتها الأولى فى هذه المنطقة لقرون طويلة. ■ قطع أثرية عُثر عليها في موقع التنقيب الأثري في منحدرات فونز ◄ اعتراف فيدرالي وقبيلة راباهانوك التى حصلت أخيرًا على الاعتراف الفيدرالى عام 2018 كانت قد أمضت عقودًا فى جهود مضنية لاستعادة أراضى أجدادها، وقد عبّرت زعيمة القبيلة، آن ريتشاردسون، عن أهمية هذا الاكتشاف بقولها: «تاريخنا مكتوب فى هذه الأرض قبل وصول أى مستكشف بوقت طويل، وما يحدث الآن يثبت ما كنا نعلمه دائمًا». وتقع المواقع المكتشفة بالقرب من منحدرات فونز الشهيرة، وهى سلسلة من التكوينات الصخرية البيضاء المذهلة المكوّنة من الحجر الرملى والدياتوميت، والتى ترتفع بشكل حاد فوق مياه نهر راباهانوك. وتشكّل هذه المنطقة موقعًا ذا قيمة ثقافية وروحية عميقة للقبيلة، خصوصًا أن روايات تاريخية تشير إلى أن جون سميث ورجاله نَجَوا 1608 من كمين وقع بالقرب من تلك المنحدرات بعد أن تعرّض قاربهم للجنوح. وقالت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية إن هذه الاكتشافات تعد خطوة محورية تدعم جهود القبيلة المستمرة لاستعادة أراضيها التقليدية، فقد تمكّنت فى السنوات الأخيرة من شراء مساحات واسعة من الأراضى المحيطة بالمنحدرات، ودخلت فى شراكات مع منظمات حماية البيئة ووكالات فيدرالية للحفاظ على النظام البيئى لنهر راباهانوك، الذى يُعد من أهم الأنظمة البيئية فى الساحل الشرقي. ◄ تعقيد ومرونة ويؤكد الباحثون أن هذه النتائج لا تساهم فقط فى إثبات دقة الخرائط الاستعمارية المبكرة، بل تكشف أيضًا عن تعقيد ومرونة المجتمعات الأصلية فى المنطقة فى الفترة ما قبل الاستيطان الأوروبي، وتُلقى الضوء على نمط حياة متكامل قائم على الزراعة والصيد وجمع الثمار. ويرجّح العلماء أن هذه المستوطنات كانت مزدهرة فى القرن السادس عشر، وأن عدد أفراد القبيلة فى تلك الفترة كان يقترب من 2400 نسمة، يعيشون على مساحة تتجاوز 350 ألف فدان. وأضافت الصحيفة الأمريكية أن الوثائق التاريخية تشير إلى أن القبيلة فقدت مساحات هائلة من أراضيها عبر القرون، ففى القرن السابع عشر، كتب جون سميث عن الهجوم الذى تعرّض له ورجاله فى المنطقة، كما أشارت وثيقة من ستينيات القرن ذاته إلى اتفاق قدّمت فيه السلطات الاستعمارية 30 بطانية فقط مقابل التنازل عن أكثر من 25 ألف فدان من أراضى القبيلة، وفى 1924، جاء قانون «النزاهة العرقية» فى ولاية فرجينيا ليحاول محو هوية القبيلة تمامًا من السجلات الرسمية. ورغم ذلك، استمرت عائلات راباهانوك فى زيارة منحدرات فونز عبر الأجيال للصيد وإقامة الطقوس واحتفالاتهم التقليدية. ◄ التنقيب الحديث ومع بدء عمليات التنقيب الحديثة اكتشف الباحثون 2500 قطعة أثرية فى منطقة تُعرف باسم «بيتر الهندي»، وهو رجل من السكان الأصليين عاش فى المنطقة فى أوائل القرن الثامن عشر. وبدأ فريق كلية سانت مارى عمليات المسح والحفر فى خريف العام الماضى داخل الغابات الكثيفة فى مقاطعة ريتشموند، بالقرب من المنحدرات، وقام الباحثون بوضع علامات على الأراضي، وحفروا خنادق صغيرة بحثًا عن الأدلة الأثرية. وفى أحد المواقع وجدوا بقايا موقد قديم يتكوّن من تربة وصخور متفحمة، يُرجّح أنه كان جزءًا من منزل أو موقع تجمع لأفراد القبيلة، وخلال التنقيب، وصل عدد القطع المكتشفة إلى نحو 11 ألف قطعة أثرية، بعضها يعود إلى القرن السادس عشر، من بينها خرز صغير وفخار مزخرف بتفاصيل دقيقة وقطع حجرية وأنابيب دخان. وقالت الزعيمة آن ريتشاردسون خلال زيارة ميدانية لموقع الحفر: «كان هذا المكان الذى عشنا فيه. ربما كان هذا هو المكان الذى اجتمع فيه أجدادنا وطهوا فيه طعامهم». وتُعد منحدرات فونز منطقة فريدة جيولوجيًا بفضل تربتها البيضاء المتكوّنة من بقايا كائنات مائية دقيقة متحجرة عمرها ملايين السنين. كما أنها تُعد موطنًا مهمًا للنسر الأصلع وعدد من الأسماك والحيوانات البرية، ويؤكد خبراء الحياة البرية أن المنطقة تجمع بين قيمة بيئية عالية وقيمة تاريخية استثنائية. وانطلقت عمليات البحث من مقارنة الخرائط القديمة والوثائق التاريخية مع الروايات الشفوية المتوارثة لدى أبناء القبيلة عبر أجيال عديدة. وتؤكد جوليا كينغ، رئيسة قسم الأنثروبولوجيا فى كلية سانت ماري، أن الفريق كان يسمع منذ سنوات عن وجود بلدات قديمة لقبيلة راباهانوك قرب المنحدرات، لكن لم يكن هناك دليل أثرى مباشر إلى أن بدأت الاكتشافات الأخيرة فى الظهور. وتشير القبيلة إلى أن هذه الجهود تأتى ضمن حركة وطنية أوسع تهدف إلى إعادة الأراضى المسلوبة إلى قبائل الأمريكيين الأصليين. وتقول هيذر ريتشاردز من صندوق الحفاظ على البيئة إن أفراد قبيلة راباهانوك حُرموا من أراضيهم لأكثر من 400 عام، وإن استعادة هذا التواصل التاريخى تُعد خطوة بالغة الأهمية. منحدرات فونز تنقسم اليوم إلى عدة ملكيات، بعضها يخضع لإدارة حكومية وبعضها تملكه القبيلة نفسها، التى تسعى إلى إنشاء مركز استقبال ومسارات تعليمية لتعريف الجمهور بتاريخها وثقافتها، وتشدد الزعيمة ريتشاردسون على أن استعادة الأرض هى استعادة للتاريخ والهوية والكرامة، قائلة: «عندما نستعيد الأرض، نستعيد أنفسنا».