برنامج «دولة التلاوة» يسعى لاستخلاص إكسير النقاء والإجادة من عصارة الوطن وفلذات أكباده المنتشرين فى ربوع النجوع والقرى . فى السعى نحو بناء مستقبل فكرى عربى واحد لا يُمكن تجاهل هذا البحر الزاخر من روابط التراث التى تشدنا نحو الماضى بكل حمولاته المعرفية التى لا تزال تسكن فى جيناتنا وتمدنا بما يُساعدنا على النهوض ومزاحمة الأمم الأخرى؛ وهذا فقط إذا أحسنّا استغلالها وتنقيتها وهزّها بمنخل المعارف الحديثة وأدوات العصر، بعيدًا عن التعصب الأجوف وادّعاء البطولات الزائفة؛ لأننا قادرون بالفعل على دمج الروابط بين ماضينا وحاضرنا ورؤيتنا إلى المستقبل.. ولهذا علينا أن نتساءل: لماذا يكون التراث عبئًا نحمله على كواهلنا فيثقل خطونا نحو الغد، فى الوقت الذى تركض فيه باقى الأمم فى سباق التقدم دون قيود كابحة؛ إضافة إلى أننا نحتاج إلى تراثنا المنخول ليكون هاديًا وعاصمًا فى بحار العولمة وأمواجها؛ خاصة أن لدينا آفتين: الأولى: نظرة التقديس المبالغة للتراث الفكرى العربى. والثانية: شعور الاستخزاء أمام الثقافة الغربية؛ وقد ظلّت روافد هاتين الآفتين مسيطرتين على الذهنية العربية، مما أسهم فى تجميد الأفكار الحداثية سنوات طويلة، حتى صار فى مقدورنا تحديد موقفنا بصورة دقيقة من التراث ومن الثقافات الوافدة على السواء، وأن نُفكر فى بناء المثقف العربى المعاصر. ولم تكن مساءلة التراث الشاغل الأول لروادنا فى الأجيال الماضية فقط؛ بل انتشرت بين عدد كبير من المفكرين المصريين خلال الفترات الماضية مما يشير إلى أن العقل النقدى يسير فى طريقه نحو النور، وإن كانت هذه الجذوة قد خبت إلى حين فواجبنا أن نذكى أوارها بما يقدح شرار التفكير المناوش والمُسائل لكل أوجه الحياة، بعيدًا عن الارتكان إلى الأفكار الجاهزة والرؤى المعلبة.. ومن هذه النقطة علينا البدء فى إعداد مشروع قومى لإعادة إنتاج التفكير الفلسفى إلى الصدارة مرة أخرى، وإنشاء أجيال جديدة من الفلاسفة الصغار. قرئ فى مصر ما بين بعض التعليقات السلبية من ذوى الأغراض المرضية، وبعض الانتقادات الصحية للارتقاء إلى الأفضل، يبقى الجلال القرآنى من ذوى المواهب المتفردة باهرًا فى برنامج «دولة التلاوة» الذى يسعى لاستخلاص إكسير النقاء والإجادة من عصارة الوطن وفلذات أكباده المنتشرين فى ربوع النجوع والقرى.. لقد استطاع هذا المشروع أسر قلوب أفراد الأسرة المصرية، وشغل أبناءها، ولو قليلًا، عن مشاهدة تفاهات مواقع التواصل التى لا تليق بأخلاقنا العالية ولا تديننا المتجذر، بتقديم نماذج حيّة للإبداع المصرى فى شتى الأعمار؛ وهو ما يُطمئننا على مستقبلنا الريادى فى دولة التلاوة؛ وقد اعترض بعض المتابعين على دمج الأطفال والكبار فى المسابقة، بحجة أن فى هذا ظلمًا للصغار؛ ولكننى كنتُ أرى أن العكس هو الصحيح، وأن صغار القراء يملكون مهارات وإتقانًا وقبولًا سيؤهلهم بصورة أسرع على حساب خبراء فى القراءات والتلاوة؛ وكنتُ أقول لزملائى: سترون ما سيفعله «القلاجى» و»عمر على» و»عبد الله»، وغيرهم، بهؤلاء، سترون كيف أن الموهبة المصرية تتخلق فى الأرحام وتنزل مع حبّات الندى وزخات المطر من معارج السماء، إنها نفحات الله على هذا البلد المحفوظ بالقرآن الكريم، المحروس بتلاوته. أما عن الهجوم الذى تعرض له د. طه عبد الوهاب، خبير المقامات، بعدما تحدث عن الشيخ المنشاوى، باعتباره نموذجًا لما لا يحسن اتفاقه بين المقام والآية، فى قوله تعالى: «إن للمتقين مفازًا» بمقام النهاوند، فإننى أثق أن الرجل لم يقصد أبدًا الإساءة إلى قامة قرآنية سامقة، بل إننى متأكد من أنه يعرف أقدار كبار قرائنا جميعًا، وهذا ليس بغريب على رجل يعيش مع القرآن: يتعلمه، ويُعلمه، وقد اختاره طريقًا وحيدًا فى حياته؛ وإن كنتُ أرجو منه ومن كل المشاركين فى هذا المشروع القومى العظيم، الموازنة بين حفظ المقامات لقرائنا الكبار، ومحاولة تشكيل مدرسة مصرية جديدة فى «دولة التلاوة»؛ تلك الدولة التى تأسست بقلوب متوضئة بالأنوار القدسية قبل أن تتأسس بالأصوات الندية.. «دولة التلاوة» فرصة عظيمة ومشروع قومى لإعادة إنتاج مشايخنا الكبار؛ وهو مشروع مكتوب له الاستمرار بعد التخطيط الجيد من وزارة الأوقاف، ودعم القيادة السياسية، والقبول الحسن من الجمهور الإسلامى، الذى يعلم جيدًا أن منافسة القارئ المصرى صعبة جدًّا؛ لأن القرآن «قُرئ فى مصر». ذكرى الحنجرة الذهبية وسط هذا النسيم القرآنى الذى يغشى قلوبنا بأصوات مصر المستقبل، تمر الذكرى السابعة والثلاثون لرحيل الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد، صوت السماء، وصوت مكة، وصاحب الحنجرة الذهبية، وأحد كبار مؤسسى دولة التلاوة، الذى انتقل إلى رحاب ربه فى 30 نوفمبر 1988م؛ وإذا كان الشيخ عبد الباسط حالة خاصة بين القراء فإن أبناءه حالة خاصة بين الأبناء، وقد توفى منذ قليل ابنه عصام عبد الباسط، ذلك الرجل الهادئ الرزين الذى كان يصدف عن الإعلام لشدة تواضعه، رغم ارتباطه الوثيق بوالده ومرافقته فى سفرياته بالداخل والخارج؛ وعندما كنتُ أناوشه ليدلى ببعض أسرار والده، حتى فى الأمور البسيطة، فإنه كان يتحدث بتلقائية عن كثير من الذكريات، ولكن دون أن يكون ذلك قابلًا للنشر؛ وأشهد أنه، وأسرة الشيخ عبد الباسط جميعًا، لا يتحدثون عن باقى القراء إلا بكل حُب واحترام وأدب يليق بهم بمن يتحدثون عنهم؛ ورغم أن الشيخ عصام، رحمه الله، كان خبيرًا بالقرآن وسمّيعًا لوالده، فإنه لم يكن يقول عنه أبدًا إنه أفضل القراء؛ بل يشهد بالأفضلية للجميع، ويبدأ فى التحدث عن جمال تلاوة الشيخ البنا، وتمكّن الشيخ مصطفى إسماعيل، وإتقان الشيخ الحصرى، وهدوء الشيخ المنشاوى؛ ولا يقول عنهم إلا عمى الشيخ فلان؛ ثم ينهمر سيلٌ من مواقف الود والاحترام والمحبة ينهمر على أذنى.. وهذا الأمر نفسه الذى وجدته مع الحاجة ياسمين الحصرى، ومع القارئ الكبير أحمد محمود عليّ البنا.. وهذا الأدب الغامر بين أبناء الكبار هو ما نرنو إلى تأسيسه بين أجيالنا النورانية الجديدة. الوثائقية.. ذاكرة الوطن منذ فترات طويلة تحدّث غيرنا عن تاريخنا بلسان غير لساننا وبطريقة تخدم أهدافهم، لا أهدافنا، وزايدوا علينا فى قنواتهم، حتى انبثق نجم قناة «الوثائقية» فى 19 نوفمبر 2023؛ وقتها فقط أدركنا أن الشركة «المتحدة» تعى قيمة تأسيس ذاكرة للوطن تتحدث بلسانه وتنافح عن كيانه، بعيدًا عن تشويهات القنوات المتربصة والمغرضة، وهو ما ظهر طوال العامين الماضيين بعد جهدٍ مُضنٍ، وتفكير عميق، وسهر طويل، كنتُ شاهدًا على بعضه عن قُرب؛ وقد أسهم هذا المشروع الكبير فى إنتاج أكثر من مئتى عمل حتى الآن؛ ولا تزال القناة تُسابق الزمن لكشف الحقائق وتسجيل الأحداث الماضية كما حدثت فى الواقع، بعيدًا عن تزييف الواقع وتغيير الوقائع الذى دأب عليه الأفاكون، وهو ما كشف المخبوء من أسرار أعداء الوطن، وفضح تآمرهم، ورفع الغطاء عن خبال أوهامهم؛ كما أسهمت القناة فى تأكيد الريادة المصرية فى كل المجالات، وقدمت إلى الجمهور نجومًا عاشوا سنواتٍ فى ظلال الغمام .