جاءت وفاة الكاتب مصطفى نصر، صديق العمر وأيام الأمل فى الإسكندرية، فنصبت حولى خيمة من الحزن. لكنها أيضاً أيقظت أياماً جميلة لم تغب عنى كتبت عنها كثيراً، وأجملتها فى كتابي «الأيام الحلوة فقط». كان لقائى الأول بمصطفى نصر صدفة لا أنساها فى أواسط الستينيات ونحن فى مطلع شبابنا، فى ندوة أقامها قصر ثقافة الحرية لكاتب من القاهرة، لا أذكر من كان بالضبط للأسف. جاءت جلستى صدفة إلى جوار مصطفى نصر من بين الجمهور تحدثنا أحياناً فى هدوء تعليقاً على ما نسمع، وعرف كل منا عن الآخر إنه يحب كتابة القصص لم يكن أيٌ منا قد نشر شيئاً بعد. أخبرنى أن فى القصر جماعة للقصة تناقش أعمال أعضائها، وتستدعى أحياناً نقاداً من القاهرة لمناقشة الأعمال، وهو عضو بها ويمكن أن انضم إليها، وأن اللقاء يوم الإثنين من كل أسبوع. كانت فاتحة خير كبيرة لي انضممت إلى جماعة القصة وعرفت أن هناك أيضاً جماعة للشعر، وهو ما أصبح يطلق عليه نوادى الأدب فيما بعد. أسماء جميلة عرفتها مع مصطفى نصر مثل: الناقد عبد الله هاشم، والدكتور السعيد الورقي، والكاتب سعيد سالم، ورجب سعد السيد، وسعيد بكر، والسيد الهبيان، وغيرهم. كنا نناقش قصصنا معاً ولا نشعر بأى غيرة بيننا، أو تنافس سيئ كما هو الحال أحياناً فى الحياة الأدبية للأسف كنا ننتهى من جلستنا فنذهب إلى مقهى بشارع الشهداء بمحطة الرمل نلعب الطاولة أو الشطرنج سعداء تطورت بنا الأيام وأصبحنا ننشر قصصنا فى القاهرة التى كان الوصول إليها أملاً، فهى المدينة المركزية للأسف وكأن الإسكندرية مدينة إقليمية بعيدة لا يعرفها أحد. ظللنا على هذه الحال وأضيف إليه لقاء آخر فى منزل عبد الله هاشم يوم الجمعة، نتبادل فيه الرأى أيضاً فى قصصنا ظلت العلاقة طيبة بيننا واستمرت عبر الزمن رحم الله الراحلين وأدام الأحياء منهم. تركت الإسكندرية عام 1974 لأعيش فى القاهرة، ولا أنسى يوم أن أخبرتهم بقرارى ونحن نجلس فى المقهى نلعب الطاولة بعد ندوتنا، كيف قلت لهم نحن سعداء ببعضنا هنا، نلتقى ونأتى إلى المقهى ونأكل الساندوتشات من عند محمد أحمد، لكن الاتصال بالقاهرة صعب فسنظل فى الإهمال سأسافر لأعيش فى القاهرة حيث الفشل والنجاح. هنا راحة قد تنتهى بالفشل، رغم أننا لا نقل عن غيرنا ممن يعيشون بالقاهرة. سافرت لكن ظلت العلاقة قائمة بيننا نتابع كتابات بعضنا ونسعد بها. تتالت أعمال مصطفى نصر فى الرواية والقصة وقصص الأطفال واقتحم القاهرة رغم بعده من رواياته «الشركاء» و«جبل ناعسة» و«الصعود فوق جدار أملس» و«الجهيني» التى حُولت إلى فيلم سينمائى بسيناريو لمصطفى محرم وإخراج على عبد الخالق ومنها أيضا «الهماميل» و«شارع البير» و«سوق عقداية» و« ليالى الإسكندرية» و«ليالى غربال» و«ظمأ الليالي» » و«اسكندرية 67» و«النجعاوية» و«سينما الدورادو» و«يهود الإسكندرية». ومن مجموعاته القصصية: «الاختيار» و«حفل زفاف فى وهج الشمس» و«الطيور» و«وجوه»، تحولت منها أربع قصص قصيرة إلى أفلام روائية قصيرة مثل «الكابوس» من إخراج أحمد رشوان وتم عرضها بعنوان «الصباح التالي» و«الزمن الصعب» من إخراج طارق إبراهيم، و«بجوار الرجل المريض» من إخراج الممثلة دنيا. و»البروفة» من إخراج طارق إبراهيم أيضاً. كما كتب للأطفال مجموعات قصصية مثل: «شدو البلابل» و«الشجرة الصغيرة» و»قسط الشقة الجديدة» و«وصية الملكة». هكذا استطاع مصطفى نصر أن يقتحم أسوار القاهرة، فأعماله منشورة فى أهم دور النشر والمجلات بالقاهرةوالإسكندرية ومشروع مكتبة الأسرة وغيرها، ولم يكن ذلك سيحدث إلا لقيمة ما يكتب. وأضاف إليها مسلسلاتٍ إذاعية كتبها لإذاعة الإسكندرية. حين مرض ودخل مستشفى كرموز العمالى وكتبت عنه على صفحتى على ال «فيس بوك»، جاءتنى رسالة من صديق كان زميلاً لى فى عملى بالترسانة البحرية بالإسكندرية هو يسرى فياض، أن الطبيبة التى تعالجه هى ابنة أخيه، وأنها قرأت ما كتبت وعرفت من هو وسترعاه رعاية كبيرة. لا يكن مصطفى نصر يتباهى بكونه كاتباً وظل يكتب، فى السنوات الأخيرة صار يكتب أكثر من مرة فى الأسبوع عن معالم الإسكندرية الباقية والضائعة وخاصة فى الأحياء الشعبية، وعمن قابلهم فى الحياة، وعن الحياة الأدبية، وكانت كتاباته مثيرة ورائعة حافلة بالمشاعر الصادقة عما يكتب. طالبت كثيراً عبر الأعوام السابقة بأن يحصل على كبرى الجوائز المصرية مثل جائزة الدولة التقديرية لكن للأسف لم يحدث. مصطفى نصر من أصول صعيدية تنتمى لمركز جهينة بسوهاج ومولود بالإسكندرية، لكن الإسكندرية سكنت روحه منذ الطفولة. صحيح حصل على جوائز مهمة مثل: جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر 2020، وجائزة نادى القصة بالقاهرة عن مجموعته القصصية «وجوه» كأفضل مجموعة قصصية صدرت خلال عام 2003، والجائزة الأولى فى الرواية فى مسابقة نادى القصة بالقاهرة عام 1983 عن رواية «الجهيني»، وجائزة المجلس الأعلى للثقافة عن مقالة له بعنوان «جوستين والشخصية الإسرائيلية» وتم تكريمه فى أكثر من مكان علمى وثقافي، وتمت دراسات جامعية عديدة لأعماله فى كليات الآداب، لكن نسيانه فى جائزة كالتقديرية كان ويظل أمراً مؤسفاً. والحقيقة أنه ليس وحده فى ذلك. لا يزال كثيرون من أروع كتّاب الإسكندرية غائبين عن جوائز الدولة الكبرى، والأسماء كثيرة من الذكور والإناث، رغم أن الإسكندرية تشهد إصداراتٍ رائعة، واحتفالياتٍ أدبية تسبق بها وزارة الثقافة كما يحدث فى مكتبة الإسكندرية. لننسى ذلك كله فلقد كتبت فيه كثيراً، وأدعو له بالرحمة والمغفرة والجنة، هو الذى قال فى حوار أخير له »عرفت أصدقاء كثيرين لكن إبراهيم عبد المجيد أحبهم إلى قلبي.»