في انتصار وصُف بالتاريخي، انتهى البرلمان الفرنسي من مشروع قانون تم من خلاله تغيير تعريف البلاد للاغتصاب والاعتداء الجنسي، وهي الخطوة التي أشاد بها المدافعون عن حقوق المرأة في جميع أنحاء فرنسا، مرجعين الفضل في ذلك إلى جيزيل بيليكوت، أيقونة نساء فرنسا، صاحبة قضية الاغتصاب الجماعي التاريخية. في الأسبوع الماضي، أقر مجلس الشيوخ الفرنسي، بأغلبية 327 صوتًا مقابل لا شيء، إصلاحًا تاريخيًا لقانون العقوبات، يُدمج صراحةً مفهوم الرضا إلى قوانين البلاد المتعلقة بالاغتصاب والاعتداء الجنسي، في أعقاب إقراره من قبل مجلس النواب، منضمة بذلك إلى جيرانها الأوروبيين. وحظى القانون المقترح بدعم الحكومة الفرنسية، حيث من المنتظر أن يقره إيمانويل ماكرون قانونًا رسميًا، والذي ينص على أن أي فعل جنسي غير رضائي يُشكّل اعتداءً جنسيًا، وأن الموافقة يجب أن تكون مستنيرة، ومحددة، ومسبقة، وقابلة للإلغاء، ويتم تقييمه في ضوء الظروف، ولا يُمكن استنتاجه فقط من صمت الضحية أو عدم رد فعلها. ويحسم القانون الجديد الجدل حول فكرة الموافقة، حيث أشار رسميًا إلى أنه لا توجد موافقة، إذا تم ارتكاب الفعل الجنسي بالعنف أو الإكراه أو التهديد أو المفاجأة، أيا كانت طبيعتها، مؤكدًا على المعايير الموجودة بالفعل، ولم يعارضه إلا اليمين المتطرف، بعدما وصفه حزب التجمع الوطني بالانحراف الأخلاقي والقانوني غير المسبوق. وأرجعت المنظمات والمؤسسات المعنية بحرية المرأة فى فرنسا تسريع إقرار تلك الخطوة، إلى بطولة جيزيل بيليكوت، التي لم تكن معروفة للعامة قبل يونيو 2021، عندما قررت أن تكون جلسات قضيتها متاحة علنًا للجميع ورفضها ما يسمى بالأبواب المغلقة، مما جعل مايقرب من 180 وسيلة إعلامية من مختلف دول العالم يتسابقون لتغطية الجريمة البشعة التي ارتكبت في حقها. بطولة جيزيل بيليكوت كانت تفاصيل قضية جيزيل البالغة من العمر 72 عاما، صادمة للجميع فور الكشف عن أحداثها المفزعة، الذي حولها لأيقونة نسائية غيرت رؤية المجتمع للنساء ضحايا الاغتصاب، حيث وقعت ضحية لزوجها، الذي قدمها لأصدقائه كوجبة سهلة عقب تخديرها، لمدة عقد من الزمان. واكتشف المحققون خلال تفتيش جهاز الكمبيوتر الخاص بالمتهم، قرصًا صلبًا متصلا بالجهاز، عثر بداخله على ملف يحمل عنوان انتهاكات، ويحتوي على 20 ألف صورة وفيلم لزوجته وهي تتعرض للاغتصاب لنحو 100 مرة، في مفاجأة صدمت الجميع وقتها، حيث استدعيت زوجته، التى اكتشف الضباط انها كانت شبه جثة لا تتحرك في كل فيديو. كما وجدت الشرطة فيديوهات صورها لابنته الوحيدة أيضا خلسة، عبر وضع كاميرات خفية في الحمامات وغرف النوم في منزله ومنزل عائلته لالتقاط وتوزيع صور زوجات أبنائه، وعمل المحققون فى القضية على تتبع جميع المتهمين الذين ظهروا في الفيديوهات وفي اعترافاته أكد المتهم دومينيك؛ أنه بين عامي 2011 و2020، كان يسحق أقراصًا منومة وأدوية مضادة للقلق وخلطها في وجبة العشاء لزوجته أو في نبيذها أو القهوة أو الآيس كريم في منزلهما في مازان، ولم يكن يتركها إلا وهي فاقدة الوعي، ثم يدعو رجالا يتواصل معهم عبر غرف دردشة على الإنترنت، وذلك لاغتصابها والاعتداء عليها دون علمها. محاكمة تاريخية وتبين أن المتهمين الذين دعاهم زوجها تلقوا تعليمات منه بعدم استخدام أي نوع من العطور أو دخان السجائر لتجنب تنبيه زوجته واستيقاظها، والمغادرة إذا تحركت فجأة، وكان معظمهم يأتون من بلدان وقرى تقع في دائرة نصف قطرها 50 كيلومترًا من موطن عائلة بيليكوت التى كانت تقيم فيه. وتمكنت الشرطة الفرنسية من تحديد هوية 51 شخصًا ممن ظهروا في تلك الفيديوهات، ومن بين هؤلاء المتهمين رجال إطفاء وسائقى شاحنات وجنود، وصحفي ودي جي، وعمال بناء وحراس سجون ومسنون على التقاعد تعدوا ال65 عاما، وفي الوقت ذاته لم تتمكن السلطات من تحديد هوية 18 شخصًا آخرين. واختتمت القضية بمحاكمة تاريخية أصدر خلالها القضاء أحكاما رادعة ضد 51 شخصا، بتهم الاعتداء الجنسي والإغتصاب، كان على رأس هؤلاء زوجها دومينيك، "الشيطان المدبر" وصاحب أطول حكم بالسجن لمدة 20 عاما بتهمة تخدير زوجته السابقة جيزيل، ودعوة العشرات من الرجال لاغتصابها في منزلها على مدى ما يقرب من عقد من الزمان. أما ال 51 رجلا الآخرين والذين تتراوح أعمارهم بين 26 و74 عاما، فقد أدين 47 شخصًا بتهمة الاغتصاب، واثنان بتهمة محاولة الاغتصاب واثنان بتهمة الاعتداء الجنسي، وجميعهم حكم عليهم بالسجن المشدد ما بين 4 و 13 عامًا. قضايا بارزة ولم تكن تلك القضية وحدها هي التي كانت الدافع والمحرك الوحيد لتلك التعديلات، بحسب الصحف الفرنسية، والتي أشارت إلى أن الأمر بدأ بمذكرات السيدة الكاتبة سبرينجورا في عام 2020، والتي فتحت نقاشًا حول الموافقة في فرنسا وأدت إلى إقرار تشريع جديد حدد سن الموافقة عند 15 عاما. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت العديد من قضايا الاعتداء الجنسي البارزة زخمًا في فرنسا، ففي فبراير 2024، حظيت الممثلة الفرنسية جوديث جودريش بتصفيق حار في حفل توزيع جوائز سيزار لخطابها حول العنف الجنسي في صناعة السينما الفرنسية، بما في ذلك الإساءة التي تعرضت لها عندما كانت قاصرًا. وفي مايو الماضي، حُكم على الممثل الفرنسي المرموق جيرار ديبارديو بالسجن ثمانية عشر شهرًا مع وقف التنفيذ بعد إدانته بالاعتداء الجنسي على امرأتين في موقع تصوير فيلم بباريس، وفي سبتمبر الماضي واجه اتهامات جديدة بالاغتصاب والاعتداء الجنسي، ولكن قضية بيليكوت هي من دفعت مشروع القانون بسرعة أكبر عبر البرلمان. انتصار تاريخي ووصفت النائبتان البرلمانيتان ماري شارلوت وفيرونيك ريوتون، صاحبتها اقتراح التعديل، أن الإصلاح التشريعي بمثابة انتصار تاريخي تمكنوا من تحقيقه وخطوة كبيرة إلى الأمام في مكافحة العنف الجنسي، منضمين بذلك إلى كندا والسويد وإسبانيا والنرويج الذين أقروا تعديلا مماثلا في ربيع العام الحالي. وأكدت النائبتان أنهما كانتا يدعوان إلى إجراء مثل هذا التعديل في قانون العقوبات منذ ما يقرب من عام، بعد أن أجريتا مهمة وصفت بالطويلة لتقصي الحقائق حول القضية، وتتويج لعملية طويلة بين الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، وإقراره يرسل إشارة إلى المجتمع أن ثقافة العقوبات قد تغيرت. ويرى المؤيدون أن من أبرز الأسباب التي ترجع الفضل في إقرار الإصلاح التشريعي، إلى قضية بيليكوت، هي أنها حطمت المفاهيم السائدة عن شكل المغتصب في فرنسا، مشيرين إلى أن زوجها كان كهربائيًا من الطبقة المتوسطة، بينما كان من بين الرجال المتهمين بالاعتداء الجنسي عليها رجال إطفاء، وسائقي شاحنات، وصحفي، ومنسق موسيقى. طريق مسدود عمليًا ولكن في الوقت نفسه برزت عدة مخاوف من جانب جماعات ومستشارين قانونيين في فرنسا، الذين رأوا أن قانون الموافقة يُلقي باللوم مجددا على الضحية بدلا من الجاني، بإجبار الضحايا على إثبات امتناعهن عن الموافقة قبل أو أثناء الاغتصاب، ولا يحل في الوقت نفسه المشكلة الأكبر المتمثلة في أن ما يصل إلى 94% من قضايا الاغتصاب في فرنسا لا تُرفع دعاوى قضائية بها. وبعيدًا عن قضية جيزيل بيليكوت، فلن يساعد قانون الموافقة الجديد الضحايا في مقاضاة المتهمين في قضايا الاغتصاب أو الاعتداء الجنسي التقليدية، كون معظم تلك القضايا تتعلق بأزواج أو أشخاص معروفين للضحايا، ولكنها في الوقت نفسه تفتقر إلى أدلة دامغة كالصور أو مقاطع الفيديو. وأكد هؤلاء أنه لا يوجد قانون فرنسي يضمن إحالة جميع الشكاوى إلى التحقيق، وبالتالي، قد يؤدي مبدأ الموافقة إلى طريق مسدود عمليًا، متفقين على أن العمل الحقيقي يجب أن يبدأ على مستوى القاعدة الشعبية، من خلال تعليم الفرنسيين بدءًا من تلاميذ المدارس معنى العلاقات السليمة. من جانبه ندد حزب التجمع الوطني - اليمين المتطرف في فرنسا - بالتعديلات التي وصفها بأنها انحرافا أخلاقيا وقانونيا غير مسبوق، مشيرين إلى أنه بات الآن بسبب التعديل أن يتعين على المحامين تحليل، ليس عنف الجاني، بل إيماءاته وكلماته وصمت من يدعي أنه ضحية. وعلى الرغم من أن القانون الجديد إيجابي، إلا أن المدافعات عن حقوق المرأة في فرنسا أكدن أنه ليس ثوريًا، ولا ينبغي المبالغة في التفاؤل ويكفي الاحتفال فقط، مشيرين إلى أنه بمجرد تغيير القانون لن يغير المجتمع، مشددين على ضرورة بذل المزيد من الجهود لمعالجة كيفية النظر إلى الاعتداء الجنسي والاغتصاب ومقاضاة مرتكبيه. اقرأ أيضا: نجم آرسنال يواجه 6 تهم بالاغتصاب والاعتداء الجنسي