امتدّت الأنظار في واشنطن إلى رجلٍ لا يظهر كثيرًا أمام الكاميرات، لكنه يتحكم في مفاصل الدولة من داخل غرف القرارات المغلقة، إنه «راسل فوجت»، مهندس السلطة الأمريكية الصامت، والعقل البيروقراطي الذي يدير ماكينة النفوذ الجمهوري من قلب البيت الأبيض، ويضع البيروقراطية الفيدرالية تحت مشرط سياسي حاد، لإعادة صياغة معنى السلطة التنفيذية نفسها. راسل فوجت، هو العقل الإداري الحاسم في دائرة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والمهندس الذي يتعامل مع الدولة الفيدرالية باعتبارها جهازًا قابلًا لإعادة البرمجة، لا مؤسسة ثابتة. ففي الوقت الذي يبرز فيه خطاب سياسي صاخب حول القوة والنفوذ داخل الإدارة، يتقدّم راسل فوجت بخطوات محسوبة، «يستخدم القواعد لاختبار حدودها، ويدير البيروقراطية لا لمجرد ضبطها ولكن ايضا لإعادة تشكيلها، ويمارس تأثيرًا يمتد إلى عمق الوكالات الفيدرالية». فوجت.. البيروقراطي الذي يقاتل من الداخل وفق مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، جاءت قوة راسل فوجت من قدرة استثنائية على تشغيل ماكينة الدولة ذاتها كأداة تغيير، مستندًا إلى نص القانون حينًا، وإلى ثغراته حينًا آخر، وبهدوء يُحدث أثرًا لا يُرى إلا في النتائج. وتصف «فورين بوليسي» راسل فوجت مدير مكتب الإدارة والميزانية (OMB) في البيت الأبيض، بأنه أحد مهندسي خطة منهجية لتفكيك الدولة الإدارية الأمريكية، على عكس بعض حلفاء ترامب ذوي الطابع الصدامي العلني مثل إيلون ماسك، يتحرك فوجت ببطء محسوب، مُستغلًا ثغرات النظام الإداري. فهو يرى أن مهمته تنفيذ رؤية ستيف بانون القديمة: «تفكيك الدولة العميقة» عبر استغلال القانون نفسه. كيف حصل فوجت على كل هذا النفوذ؟ لم يأتِ نفوذ فوجت من فراغ، حيث جاء من سيطرته على مكتب الإدارة والميزانية، الذي أصبح مع الزمن أحد أهم مراكز القوة في الدولة الفيدرالية. ورغم كونه مكتبًا فنيًا يبدو "غير سياسي"، إلا أنه يتحكم في: شكل الموازنة الفيدرالية، وقواعد الإنفاق والتحصيل، واللوائح الحكومية، وتقييم أداء الوزارات والهيئات. أي أنه يعتبر «مركز تحكم الدولة الحديثة». من القرن العشرين إلى مشروع 2025.. كيف تضخم نفوذ المكتب؟ عام 1921 صدر قانون الموازنة والمحاسبة، الذي أسس لأول مرة ميزانية اتحادية موحدة، ثم جاء فرانكلين روزفلت (الرئيس الأمريكي الأسبق) في فترة الكساد ونقل المكتب إلى قلب البيت الأبيض ورفع عدد موظفيه من عشرات إلى مئات، ليصبح مركز الخبرة الأساسي للدولة الحديثة. وخلال الحرب العالمية الثانية، فرض مدير المكتب آنذاك هارولد سميث أن تمر كل طلبات الوزارات عبره، ما جعله جهة حاكمة فعلية في إدارة الحرب والاقتصاد. حيث وصفه أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي حينها : "نحن نصدر الصلاحيات.. وهارولد سميث (الذي شغل منصب مدير مكتب الميزانية بالولايات المتحدة حينها) يكتب القوانين". أما الستينيات والسبعينيات، فقد شهدت توسع المكتب مع مشاريع (الرئيس الأمريكي الأسبق) ليندون جونسون الاجتماعية، ثم أعاد نيكسون تسميته إلى "مكتب الإدارة والميزانية" وزاد سطوته على كل الوزارات، لتوحيد القرار التنفيذي ومراقبة الأداء. اقرأ أيضًا| «خبراء يُحذرون».. ما مدى جاهزية أمريكا لصراع مباشر مع الصين؟ رونالد ريجان.. نقطة التحول الكبرى رونالد ريجان (الرئيس الأمريكي الأسبق من عام1981 إلى 1989)، رأى المكتب سلاحًا لمواجهة الكونجرس والدولة البيروقراطية. فعزز سلطته، وعيّن شخصية هجومية مثل ديفيد ستوكمان لقيادته، ووقتها المكتب أصبح: يوقف أو يعدّل القوانين، ويفرض تحاليل مالية على كل تنظيم جديد، ويلغي لوائح بيئية وعمالية، ويدفع لخفض الضرائب والإنفاق. ومنذ ذلك الوقت، أصبح المكتب "حكومة داخل الحكومة". فوجت وترامب.. العودة إلى الدولة التنفيذية القوية عندما عاد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب للسلطة الأمريكية في يناير 2025، أسند لواحد من أكثر مساعديه ولاءً وتشددًا رئاسة المكتب، وهو راسل فوجت. فوجت حوّل أفكار "مشروع 2025" وهو مشروع ضخم لإعادة هيكلة الحكومة الفيدرالية باتجاه محافظ قومي من وثيقة تنظيرية إلى خطة عمل جاهزة للتنفيذ. وبدلاً من تجاوز القانون، عمل من خلال القانون نفسه، لتوسيع صلاحيات المكتب، والضغط الإداري على الوكالات الفيدرالية، واستغلال ثغرات اللوائح، وإعادة تفسير سلطات السلطة التنفيذية. ما الذي يجعل فوجت خطيرًا بنظر معارضيه؟ يرى محللون أن راسل فوجت يمثل نموذجًا جديدًا يتمثل في "بيروقراطي أيديولوجي.. يستخدم أدوات الدولة ضد الدولة نفسها". أما خصومه فيقولون إنه: "يعمل على تركيز السلطة التنفيذية بصورة غير مسبوقة، ويضغط لإضعاف الكونجرس، ويعيد تصميم البيروقراطية لصالح الرئيس الأمريكي ترامب، ويستغل الغموض القانوني لتوسيع نفوذ المكتب، والأخطر وفق التحليل أن ما يقوم به سيتمكن رؤساء مستقبلون من استغلاله أيضًا إذا لم يُعاد ضبط التوازنات الدستورية". تجربة راسل فوجت.. من مكتب صغير إلى "دولة داخل الدولة" أكدت تجربة فوجت، أن الخطر الأكبر ليس في السياسي الذي يصدر التصريحات النارية، وإنما في المسؤول الإداري الذي يعرف أين توجد مفاصل السلطة وكيف يُعاد توجيهها بهدوء. حتى أشد منتقدي ترامب يعترفون أن راسل فوجت لا يكسر النظام.. بل يعيد برمجته. ويقولون إن راسل فوجت، هو نموذج للبيروقراطي الأيديولوجي الذي يرى نفسه في مهمة "إنقاذ دولة" عبر إعادة تشكيلها، ومع غياب إصلاحات تحد من سلطات مكتب الإدارة والميزانية، فإن تأثير ما بناه قد يمتد طويلًا بعد رحيل ترامب نفسه. اقرأ أيضًا| أهداف ملتبسة.. 3 أسئلة تكشف غموض «حرب ترامب ضد قوارب المخدرات» في الكاريبي