ليست مجرد صفقة صواريخ بل هى تذكير بحقائق ظن البعض أنها ذهبت طى النسيان. شهدت السنوات الماضية دراسات وجدالا كبيرا حول طبيعة الحروب الحديثة.. بعض الخبراء والباحثين ذهبوا إلى الاعتقاد بأن الحروب التقليدية بكل مقوماتها قد أصبحت من الماضى وأن مستقبل الصراعات ستسيطر عليه أسلحة وتكنولوجيات أخرى أو حروب الجيل الرابع التى تعتمد على أدوات غير تقليدية، ثم فوجئنا خلال العامين الماضيين بعودة قوية للمدفع والصاروخ والبندقية الآلية والقوات الجوية والبحرية والبرية، وذلك فى صراعات عدة تابعناها فى أوكرانيا وغزة ولبنان والسودان وسوريا ولبنان ومناطق الصراعات الأخرى حول العالم.. كل ذلك أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ما قيل حول نهاية الحروب التقليدية كان سابقا لأوانه إلى حد كبير، بل إنها تجاهلت طبيعة الصراع الإنسانى الذى اعتاد السيطرة على الأرض وحسم المواجهات بقوة النيران والتفوق الميداني. أكبر دليل على أن الأسلحة التقليدية لاتزال تحتفظ ب «الهيبة» ومكانتها هو الرسائل والإنذارات التى سمعناها قبل يومين فى تصريحات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وتحذيره من قيام الولاياتالمتحدة بتزويد أوكرانيا بصواريخ «توماهوك» واعتبر ذلك تصعيدا خطيرا وقال: إن رد بلاده سيكون «مدوياً» فى حال تعرض عمق أراضيه لهجمات بصواريخ «أمريكية» !!.. تلك الصواريخ بالمناسبة ليست من الصناعات الحديثة بل تعد إرثًا عسكريًا بدأ تطويره فى السبعينيات ودخل الخدمة عام 1983 ليصبح حجر الزاوية فى العقيدة الهجومية الأمريكية بعيدة المدى. وشهرة صاروخ «توماهوك» اكتسبها من دقته الفائقة وقدرته على التحليق على ارتفاعات منخفضة جدًا والتخفى عن الرادارات مما جعله الخيار الأول للولايات المتحدة وحلفائها فى تنفيذ ضربات دقيقة ضد البنية التحتية والأهداف المهمة فى الصراعات الكبرى، بدءًا من حرب الخليج عام 1991 ووصولًا إلى الضربات فى أفغانستان والعراق وسوريا واليمن. وينبع الخوف من إمداد أوكرانيا بهذا السلاح الذى يصل مداه إلى 2500 كيلومتر من كونه يمنح كييف القدرة على ضرب عمق الأراضى الروسية. الرئيس الأمريكى دونالد ترامب علق من قبل واصفًا «توماهوك «بأنه «سلاح مُذهل وهجومى للغاية» وهدد بإرساله لكييف فى حال لم تحسم الحرب. وفى المقابل حذر بوتين من أن صاروخ «توماهوك» يستحيل أن يتم تشغيله دون مشاركة عسكريين أمريكيين معتبرًا أن تسليم الصفقة يعنى رسالة تصعيد خطيرة فى العلاقات بين موسكو وواشنطن.. يأتى ذلك فى الوقت الذى قام فيه بوتين بمراوغة ساكن البيت الأبيض عدة مرات لوقف الحرب لرغبته فى أرغام الخصوم على تقديم أكبر تنازلات تحقق مصالحه وهو ما دفع كييف وأوروبا إلى المطالبة بأسلحة أمريكية قوية بعيدة المدى للتصعيد. ترامب وإدارته يرون أن إرسال هذه الأسلحة قد يُعجّل محادثات السلام لكنه قد يفعل العكس ويطيل أمد الحرب ويُصعد الصراع مما يضع صانعى القرار أمام مفترق طرق حرج. إن رسائل «توماهوك» التى نراها اليوم ليست مجرد صفقة صواريخ بل هى تذكير بحقائق استراتيجية ظن البعض أنها ذهبت طى النسيان. فالحرب كانت وستظل صراع إرادات والأرض تبقى الجائزة الأبدية والسلاح التقليدى والنوعى والاستعداد العسكرى للقوات يظل الضامن المهم للسيادة والكرامة. إن حروب الجيل الرابع لم تحل محل نظيرتها التقليدية بل ستشكل علاقة تكاملية معقدة بينهما فيما يسمى بالحروب الهجينة. فالقدرات غير التقليدية تزيد من فعالية الأسلحة التقليدية وتوسع من خيارات القادة العسكريين لكنها لا تستطيع بمفردها تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى التى تتطلب سيطرة فعلية على الأرض.. صحيح أن حروب الجيل الرابع لا تهدف بالضرورة إلى «الاستيلاء على الأرض» بالمعنى التقليدى بل إلى تحطيم إرادة الدولة ومؤسساتها من الداخل لكنها فى نفس الوقت لا تستطيع احتلال المواقع الحيوية أو السيطرة على المناطق الاستراتيجية. هذا الواقع يؤكده المشهد الذى نراه فى أوكرانيا وغيرها حيث تتحقق المكاسب متراً تلو الآخر من خلال القتال المتلاحم رغم التقدم التكنولوجى الكبير لأطراف الحرب.