■ كتبت: بسملة عبدالنبي مُنذ أن صدحت أنغام "الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة" في ستينيات القرن الماضي، ظل مسرح العرائس في مصر واحدًا من أجمل وأصفى أشكال الفنون الشعبية، التي صنعت البهجة في وجدان أجيال كاملة، لكن مع مرور الزمن، وتراجع الاهتمام المؤسسي والثقافي، خفت بريق العروسة، وغاب الأراجوز عن الساحات، وكأن زمن الدهشة الطفولية قد انطوى، فهل انتهى زمن الأراجوز فعلًا؟ أم أن هذا الفن العريق قادر على العودة من جديد؟! ◄ مهرجان القاهرة.. الخيال يُحرك الخشب والمسرح يُنعش الروح الحقيقة التى يجب أن نواجهها هى أن مسرح العرائس يعيش أزمة بقاء، لا بسبب قلة الموهوبين، بل بسبب غياب الرؤية والاهتمام. ومع ذلك، ما زال الأمل حيًا فى كل يدٍ تصنع عروسة جديدة، وفي كل فنان يؤمن أن قطعة خشب صغيرة يمكن أن تنطق بالحياة. منذ أن توقف الأراجوز عن الصراخ فى شوارع القاهرة القديمة، وغابت عروض العرائس التى كانت تبهج الكبار قبل الصغار، ساد شعور عام بأن هذا الفن الأسطورى قد انزوى إلى ركن بعيد من الذاكرة. لكن بين أنقاض الحنين ودهشة الأطفال، يقف الدكتور أسامة محمد على، مدير مسرح القاهرة للعرائس، مؤكدًا أن «زمن العرائس لن ينتهى»، لأن هذا الفن كما يقول وُلد مع الإنسان نفسه، ويقول: «فن العرائس وجد منذ بداية وجود الإنسان، فهو حاجة إنسانية خالدة، والطفل منذ صغره يصنع من العروسة صديقًا خياليًا يتبادل معه الأدوار والأحلام. إنها وسيلة للتعبير والاتصال قبل أن نعرف الكلام». ◄ اقرأ أيضًا | «الأراجوز المصرى» من القاهرة للإسكندرية ◄ فن وتربية يرى أسامة أن فن العرائس والأراجوز من أقدم الفنون التى نشأ الإنسان عليها، وأنه ظل مدرسةً فنية وتربوية تخاطب العقول وتُهذّب الوجدان، ولهذا فإن مسرح العرائس باقٍ رغم كل تطورات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى. ويقول مُدير مسرح القاهرة للعرائس، بثقة: «العرائس وُجدت منذ بداية وجود الإنسان، فهى وُلدت لتسد حاجة وجدانية وإنسانية. فالطفل منذ صغره يصنع من العروسة صديقًا خياليًا يشاركه أدواره وأحلامه». ويضيف: «فن العرائس لا يمكن أن يندثر لأنه مرتبط بفطرة الإنسان واحتياجاته الداخلية. الطفل لا يتعامل مع العروسة كشىء جامد، بل ككائن حى يحاوره ويتفاعل معه»، ويشير إلى أن فن العرائس ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل مدرسة تربوية وجمالية تنمى الخيال وتغرس القيم والسلوكيات الإيجابية، موضحًا أن المسرح يشارك حاليًا بقوة فى مهرجان القاهرة الأول للعرائس، الذى تنظمه أكاديمية الفنون تحت رعاية وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، وإشراف الدكتورة غادة جبارة، وبالتعاون مع وزارة الثقافة وهيئة قصور الثقافة وقطاعات متعددة. الدكتورة غادة جبارة، رئيسة أكاديمية الفنون، تقول إن المهرجان يمثل عودة الروح لفن العرائس بعد سنوات من الغياب، مؤكدة أن هذا الفن العريق قدّم أعمالًا خالدة مثل (الليلة الكبيرة) و(حكايات حمار شهاب الدين)، وهى أعمال لا تُنسى لأنها عبّرت عن وجدان الشعب المصرى ببساطته وذكائه وروحه الساخرة، وأعلنت عن مسابقة لكتّاب مسرح الطفل والعرائس لتشجيع النصوص الجديدة، كما كشفت عن افتتاح فرع جديد لفن العرائس بمعهد فنون الطفل، ليكون نواة لاكتشاف مواهب شابة قادرة على تجديد الدماء فى هذا الفن العريق. ■ الفنانة إيناس نور ◄ رسالة ومسئولية تؤكد الفنانة إيناس نور، مديرة مسرح الطفل، أن مسرح العرائس ليس مجالًا سهلًا كما يظن البعض، بل يحتاج إلى فنان يمتلك مفاتيح عقل الطفل ووجدانه، وتقول: «الطفل لا يمكن خداعه، فهو يشعر بصدق الممثل، ويتفاعل فقط مع ما يلمس خياله. لذلك من الصعب جدًا أن تقدم له عرضًا سطحيًا أو خاليًا من الرسالة»، وتضيف أن إدارة المسرح تعمل حاليًا على تنفيذ عدد من المشروعات المهمة، منها مشروع «مسرحة المناهج» الذى يهدف إلى تحويل قصص رموز العلم والأدب مثل طه حسين وأحمد زويل إلى عروض مسرحية تعليمية شيقة. أضافت: كما يطلق المسرح مشروعًا آخر بعنوان «فلنذهب إليهم»، يستهدف نقل عروض العرائس إلى القرى والنجوع فى المحافظات، حتى تصل البهجة والمعرفة إلى الأطفال فى كل مكان. ◄ عروض المُستقبل عندما سُئل الدكتور أسامة محمد عن سبب غياب أعمال تحقق الصدى نفسه الذى تركته «الليلة الكبيرة»، أجاب قائلًا: «الليلة الكبيرة ليست مجرد عرض مسرحى، بل أوبريت تراثى أيقونى يعبر عن وجدان الشعب المصرى، ومن الظلم مقارنة أى عمل آخر بها. هى عمل جمع العبقرى صلاح جاهين بالموسيقار سيد مكاوى والمخرج صلاح السقا، فكانت النتيجة عملًا خالدًا»، لكنه يضيف أن المسرح يسعى لتقديم أعمال جديدة تحمل رؤية عصرية ورسائل تربوية، مثل «ذات والرداء الأحمر» الذى يناقش الاستخدام غير الآمن للسوشيال ميديا وتأثيرها على الطفل، و«مروان وحبة الرمان» المستوحى من ألف ليلة وليلة ويعالج فكرة الخير والشر، و«قطرة ندى» الذى يناقش الغرور والتواضع فى مواجهة الأنانية، و«أكتوبر الذهبى» احتفاءً بمرور خمسين عامًا على نصر أكتوبر. ويؤكد أسامة محمد، أن هذه العروض تمزج بين التراث والمعاصرة، وتفتح المجال أمام جيل جديد من المخرجين والمصممين الشباب الذين يتعاملون مع الخشب والخيال بنفس القداسة التى تعامل بها صلاح السقا فى زمنه. ◄ ذاكرة التراث في إحدى موائد مهرجان القاهرة للعرائس، تحدث أحمد عبد العليم، رئيس المركز القومى لثقافة الطفل، عن أهمية الأراجوز كرمز للتراث الشعبى المصرى، قائلًا: «الأراجوز ليس مجرد دمية تتحرك على المسرح، بل هو ضمير الشعب وروحه الساخرة. من خلاله كنا نضحك وننتقد ونعبر عن همومنا بذكاء شعبى بسيط». وأوضح عبد العليم أن المركز أسس مدرسة الأراجوز لتدريب جيل جديد من الفنانين، مشيرًا إلى وجود 36 لاعب أراجوز نشطين فى محافظات مصر، يعملون على إحياء هذا الفن فى المدارس والميادين الثقافية، كما كشف عن خطة لإطلاق مهرجان قومى للأراجوز يجمع بين العروض الشعبية والورش التدريبية، بهدف توثيق هذا الفن المدرج على قائمة التراث الإنسانى غير المادى فى اليونسكو. ◄ كوادر جديدة أما المخرج هشام على، فقد أدار جلسة نقاش حول أزمة ندرة المتخصصين فى تحريك وتصميم العرائس، مؤكدًا أن الفن يواجه خطرًا حقيقيًا بسبب غياب التدريب الأكاديمى المتخصص. وقال: «نحن بحاجة إلى مدرسة قومية لتعليم فن العرائس، تجمع بين التصميم والنحت والتحريك والدراما. فالموهبة وحدها لا تكفى، لا بد من صقلها بالعلم والتجربة». وخرجت المائدة بعدة توصيات مهمة أبرزها، إنشاء بنك للنصوص المسرحية الخاصة بعروض العرائس، وتأسيس رابطة لفنانى الطفل والعرائس لتبادل الخبرات، ووضع خطة دائمة لتحديث ورش المسرح وتطوير الخامات المستخدمة فى صناعة العرائس. ◄ ذاكرة ووجدان وفى ختام حديثه، يقول الدكتور أسامة محمد على إن العروسة ستظل رمزًا للحياة والبراءة مهما تغير الزمن، مضيفًا: «العرائس لم تُخلق لتنافس التكنولوجيا، بل لتُكمل الإنسان وتعيد إليه براءته الأولى. فى العروسة روح لا تفنى، لأنها تمثل الحلم البسيط الذى نحمله جميعًا فى طفولتنا»، ويضيف بابتسامة: «قد يختفى الأراجوز من الشوارع لبعض الوقت، لكنه سيعود، لأن مصر لا يمكن أن تعيش بلا ضحكة طفل، ولا بلا خشبة تحركها يد فنان عاشق».. بين عبق الماضى وقلق الحاضر، يقف مسرح العرائس فى مفترق طرق. فبينما يظن البعض أن زمن الأراجوز قد انتهى، يرى عشاق هذا الفن أنه لا يموت، بل ينتظر فقط من يعيد إليه الحياة. وربما ما بين الخيوط والخشب، تكمن حكاية مصر نفسها: بلد لا تفقد قدرتها على الفرح مهما تغيرت الوجوه والعصور. فى النهاية، ربما تغير الزمن، وربما اختفى الأراجوز من الميادين، لكن طالما هناك طفل يضحك، وفنان يحرّك الخيوط بحب، فإن زمن الأراجوز لم ولن ينتهِ.