في كل عام، يتجدّد المشهد الفريد الذي يربط بين عبقرية المصري القديم وسحر الفلك، حين تتعامد الشمس على قدس الأقداس في معبد رمسيس الثاني بأبو سمبل في مشهدٍ مهيب يجذب أنظار العالم. ليست الظاهرة مجرد عرض ضوئي طبيعي، بل رسالة من الماضي تؤكد مدى تقدم الفراعنة في علم الفلك والهندسة، وقدرتهم على ربط السماء بالأرض بدقة مذهلة تثير الإعجاب حتى اليوم. بداية القصة: شهدت مدينة أبو سمبل صباح اليوم 22 أكتوبر تعامد أشعة الشمس على وجه تمثال الملك رمسيس الثاني داخل معبده الكبير، وهي الظاهرة التي اكتُشفت للمرة الأولى عام 1874 على يد المستكشفة الإيطالية إميليا إدوارذ، والتي وثّقتها في كتابها الشهير «ألف ميل فوق النيل» الصادر عام 1899. ويؤكد خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، أن هذه الظاهرة نتاج تصميم هندسي فلكي مذهل، يعكس دقة المصريين القدماء في فهم حركة الشمس ومواقعها الموسمية. وأشار إلى أن المعبد نُحت في الجبل خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد في عهد الملك رمسيس الثاني، تخليدًا لانتصاره في معركة قادش واحتفالًا بجلوسه على العرش، كما شُيّد بجواره معبد صغير للملكة نفرتاري مكرس لعبادة الإلهة حتحور، رمز الحب والخصوبة. وأوضح الدكتور ريحان أن أشعة الشمس تخترق الممر الأمامي بطول 60 مترًا لتصل إلى قدس الأقداس، حيث تُضيء تماثيل رمسيس الثاني، رع حور آختي، وآمون رع، بينما يظل تمثال الإله بتاح في الظل لأنه يُعد "إله الظلام" في المعتقد المصري القديم، وتستمر الظاهرة لمدة تتراوح بين 20 و25 دقيقة في دقة فلكية تُظهر عبقرية المصريين القدماء في رصد حركة الشمس والنجوم. وأضاف ريحان أن الظاهرة كانت تحدث في الأصل يومي 21 أكتوبر و21 فبراير من كل عام، إلا أنها تغيرت إلى 22 أكتوبر و22 فبراير بعد نقل معابد أبو سمبل بالكامل إلى موقع جديد على ارتفاع 66 مترًا ضمن مشروع إنقاذ آثار النوبة الذي رعته منظمة اليونسكو بين عامي 1960 و1980، بعد بناء السد العالي، حيث تأخر التوقيت يومًا واحدًا بسبب تغيير زاوية المعبد بعد النقل. وبيّن خبير الآثار أن تصميم المعبد ارتبط بدقة بحركة الفلك لتحديد مواسم الزراعة والحصاد، وربما أيضًا مولد الملك رمسيس الثاني ويوم تتويجه، وهو ما يؤكد مدى تقدم المصريين في علم الفلك؛ إذ عرفوا الكواكب والنجوم، وحددوا الأبراج، واخترعوا الساعة الشمسية لتقسيم الزمن بدقة مذهلة. ولم تقتصر الظاهرة على أبو سمبل فحسب، بل تتكرر في أماكن أخرى داخل مصر؛ إذ تتعامد الشمس يوم 21 ديسمبر على معبد قصر قارون بالفيوم ومعبد الكرنك بالأقصر، كما تتعامد أيضًا على كنيسة الملاك ميخائيل بكفر الدير بالشرقية مرتين سنويًا، في مشهد يجمع بين العلم والروحانية ويؤكد عمق الترابط الحضاري بين المصريين على مرّ العصور. ويُختتم هذا المشهد السنوي المهيب بالتأكيد أن رمسيس الثاني لم يكن مجرد ملكٍ محاربٍ، بل رمزًا للسلام والعلم والفن؛ فقد خلد اسمه بمعاهدة السلام الأولى في التاريخ، وبمنشآت معمارية فريدة تقف حتى اليوم شاهدًا على عبقرية مصر التي ربطت بين ضوء الشمس وروح الإنسان في تناغمٍ خالد. اقرأ أيضا | الشمس لا تخطئ موعدها على وجه رمسيس.. مصر تستعد لظاهرة فريدة بمعبد أبو سمبل