بعد واحد وعشرين عاماً اختطفتها جدران السجن الصامت من عمره، عاد الكاتب الفلسطينى باسم خندقجى - الفائز بجائزة البوكر العربية العام الماضى عن روايته «قناع بلون السماء» - ليصافح شمس الحرية، نستقبله اليوم وقد حمل فى وجدانه خريطة العتمة التى عاشها، فى هذا الحوار، نغوص مع «باسم» فى أعماق تلك المشاعر المتضاربة، فرح اللقاء، ثقل الذكريات، وتحدى البدء من جديد. وصل إلى مصر ضمن الأسرى الفلسطينيين الذين جرى الإفراج عنهم منذ أيام قليلة. كيف تصف شعورك بلحظة الحرية بعد سنوات الأسر، وما أول رسالة توجهها إلى العالم والشعب الفلسطيني؟ - شعورى مزيج من الفرحة والفخر بهذا الانتصار العظيم، وفى نفس الوقت مزيج من الحزن والألم لأسباب عدة من أهمها ما ألم وأصاب شعبنا فى قطاع غزة الأبية من دمار ودماء نتيجة هذه الهجمة الاستعمارية الشرسة التى شنّها العدو الصهيوني، بالإضافة إلى من تركناهم وراءنا من أسرى، رفاقاً وإخوة مناضلين خلف الأسوار يعانون الآن من أصعب وأشد الظروف، أما أول رسالة أتوجه بها إلى الشعب الفلسطينى فهى: تحية الفخر والعزة لهذا الشعب الصامد الأبى الذى انتصر لقضية الأسرى وللقضايا العادلة، وأقول للعالم: شعبنا الفلسطينى يستحق الحياة، فنحن لم نولد لنُقتَل؛ ولدنا لنكون أحراراً مثل كل شعوب العالم. ما أصعب اللحظات التى واجهتها أثناء خروجك، وكيف تصف مشاعرك الآن وأنت تتنفس نسمات الحرية؟ - اللحظات الأولى؛ كنت أخشى من القمع والتنكيل والضرب، كنا نتوقع ما بين الفينة والأخرى أن تكون هناك صفقة تبادل للأسرى سوف تبرم، وقد يكون اسمى من بين هذه الأسماء التى سترد بالقائمة، فكانت مشاعرى أو تفاؤلى تجاه التطورات الأخيرة تفاؤل حذر، به شيء من الشك، لأنه فى السابق تمت أكثر من صفقة تبادل للأسرى ولم يرد اسمى بها، حتى جاءت الصفقة الأخيرة التى كانت بمثابة الخلاص الذى نقلنا من مرحلة صعبة ليس بها أى ظروف إنسانية، ونقلتنى إلى العالم الخارجى الذى أعود إليه بعد 21 عاماً من وجودى فى مقبرة الأحياء، عالم لا يمكننى أن أعيشه بكل جوارحى حتى الآن، ما زلت أتخيل، أحاول أن أقنع عقلى أننى خارج الأسوار، وأن ما أراه واقع ملموس. كيف أثرت 21 عاماً من الأسر على عالمك الروائى وشخصياتك، وخاصةً بعد فوزك بجائزة البوكر عن رواية «قناع بلون السما» التى كتبتها داخل السجن؟ - فى السجن لغتى لم تكن ثابتة، بل جاءت تفاعلية، بذلت جهداً كبيراً فى بناء هذه اللغة، والتحول النوعى الذى طرأ على هذه اللغة الأدبية عندما قررت أن أخوض مجال الكتابة ضد الاستعمار، وبدأت هذه الكتابة من خلال مشروع روايات «المرايا»، بدءاً من الجزء الأول الذى فاز بجائزة البوكر «قناع بلون السما»، وربما أثّر السجن تأثيراً إيجابياً على فى بناء هذه اللغة بحيث تحولت لغتى الأدبية إلى لغة قادرة على مقاومة هذا المستعمر السجان، وعلى كسر هجمته وتعزيز إرادتى أيضاً، وأصبحت لغة مقاومة قادرة على تلبية تطلعاتى فى الاشتباك الثقافى مع الآخر الصهيونى. قراءة الآخر الصهيوني وما تأثير تلك الفترة على رؤيتك المستقبلية ومشروعك الإبداعى بعد الحرية؟ - داخل الأسر لم أكتب عن الأسر، قمت بتأسيس موقعى الثقافى داخل السجون لكى أشرف منه على العالم، لا يمكن أن تصنف موضوعاته بأنها أدب سجون، كنت مشغولا ومهموما بالكتابة عما يخص الخارج، ولربما كانت معظم «تيمات» الأفكار التى كتبتها تعنى بتسليط الضوء على العلاقة الإشكالية ما بينى وبين الآخر الصهيونى، وبعد الحرية سأعمل على تعزيز واستثمار هذه الرؤية والاستفادة من كونى باحثاً فى الشأن الإسرائيلى فى تدعيم مشروع كيف نقرأ الآخر الصهيونى كأدباء فلسطينيين، وكعرب بشكل عام. وماذا عن مشروعك لدعم إبداعات الأسرى، وما خططك لتطويره ونقله من داخل الأسر إلى خارجه؟ - قبل التحرر بعدة أشهر، قمت مع بعض الأسرى من حملة الأقلام داخل السجن بطرح مفهوم جديد للأدب الفلسطيني، وأننا بحاجة إلى تطوير أدبنا الفلسطينى بحيث يصبح أدباً مشتبكاً مع الآخر، لحسم الصراع الثقافى مع هذا العدو، وبالتالى نحن نتحدث عن حركة أدبية ثقافية ما بين البحر والنهر، تقوم على عدة أسس مشتركة أهمها النضال ضد العنصرية و«الفاشية» والصهيونية. المرأة هى الرجل الآخر كتبت روايات ودواوين عن المرأة داخل السجن، منها رواية «أنفاس امرأة مخذولة»، ودراسة عن المرأة الفلسطينية، كيف أثرت علاقتك بالمرأة - واقعياً أو ذهنياً وروحياً عبر الكتابة - على صمودك ومشاعرك خلال سنوات الأسر ال 21؟ - دائماً أصف لغتى السردية والشعرية بأنها أنثوية بالأساس، قائمة على التأنيث، وإذا لم تؤنث فهى ليست لغة يمكن أن تطمح إلى الانتصار والحرية، دائماً اللغة التى تحمل أصواتا متعددة هى التى تنتصر وأما التركيز على البعد الذكورى والأبوى فى اللغة فلا يكفى، من هنا دائماً ما أعزز الصوت الأنثوى داخل نصوصي، وأتعامل مع المرأة ليس على أنها نصف المجتمع بل المرأة هى الرجل الآخر. رغم أنك شاعر؛ تبدو الرواية الأفق المفضل عندك، فلماذا؟ - بداياتى كانت شعرية تحديداً فى قصيدة النثر، وفى كتابة القصيدة ذات البعد «السريالي» والتجريدي، وقمت بنشر ديوانين فى هذا الجانب، ولكن فيما بعد اكتشفت أننى لست شاعراً، وأن الشعر لم يعد يكفى لتقديم تمثيل أدبى وثقافى يعبر عما أحمله من أفكار، فتوقفت. من الأساتذة المؤثرون فى وعيك ووجدانك؟ - هناك العديد من المُعلمين والمؤثرين الروحيين، من أهمهم: الشهيد غسان كنفاني؛ فمنذ نعومة أظفارى وأنا أقرأ أدب «كنفاني»، فهو المؤثر الأكبر من ناحية التركيز والكثافة الأدبية فى الكتابة، ولكن محمود درويش هو المؤثر والمُعلم الأبرز. ما النصوص الإبداعية المصرية التى تمنيت أن تكون أنت مبدعها؟ - النص الأول - بامتياز- هو «أولاد حارتنا» للعالمى نجيب محفوظ، كنت أتمنى لو أننى قمت بكتابته، وهناك أيضاً رواية «عزازيل» ليوسف زيدان؛ رائعة جداً، ونصوص لشعراء عمالقة مثل: أمل دنقل، عبد الرحمن الأبنودي، أحمد فؤاد نجم. مصر.. الدفء والأمان كيف ترى دور مصر فى التعامل مع القضية الفلسطينية وخاصة ملف الأسرى؟ - على المستوى الشعبي؛ مصر فى وجدان الشعب الفلسطينى تعني: الأمان، الثقة، العمق الاستراتيجي، وتعنى الدفء أيضاً، قبل عدة أيام كنت أتجول على كورنيش قصر النيل فإذا بإنسان يقفز من نافذة سيارته موجهاً لى التحية وأنا لا أعرفه، هذا يدل على دفء الشعب المصرى وعفويته وعمق روحه الوطنية، إذ يعتبروننا أفراداً منهم، أما على صعيد دور مصر السياسى ودعمه للقضية الفلسطينية، فنحن لا نقول فقط إن مصر تدعم، وإنما هى جزء لا يتجزأ، وهى الحاضنة التاريخية والسياسية لنا كشعب فلسطيني، التى تعمل دوما على رعاية مصالحنا، ودور مصر كبير وأساسى فى صفقة التبادل الأخيرة، وعندما دخلنا معبر رفع المصرى هتفنا جميعاً: «تحيا مصر»، وقمنا بتوجيه الشكر والتقدير للقيادة المصرية على الدور الذى لعبته فى إيقاف إراقة الدماء الفلسطينية فى غزة الحبيبة، فلا يمكن أن يتم تجاوز دور مصر، وسعدت جداً بشكل شخصى عندما سمعت الرئيس عبد الفتاح السيسى يتحدث عن كيفية إيقاف مشروع تهجير الشعب الفلسطينى من غزة، ونجحت القيادة المصرية نجاحاً باهراً فى تحقيقه.