الفن التشكيلى مجموعة متنوعة من الإبداعات البصرية التى تعكس ثقافات وحضارات الشعوب، ولكل مبدع تجربة تحمل بصمته الخاصة التى تترجمها أعماله.. فى فضاء الفن التشكيلى، يتخطى الصمت كونه غيابًا للصوت، ليغدو حضورًا مهيبًا يختبئ فى ثنايا اللون والخط والظل، ف «طيات السكون» ليست فراغًا بصريًا، بل هى النبض الهادئ الذى يسكن خلف الأشكال، والهمس الذى يتردد فى أعماق اللوحة دون أن يُسمع. اقرأ أيضًا | «دهب مصر».. مبادرة فنية لتحويل الشوارع إلى لوحات تشكيلية هناك فى هذا الصمت البهى، يولد المعنى ويتجلى الإحساس، وتُستعاد لحظة الصفاء الأولى التى تسبق الكلمة، وتحتضن فكرة الإبداع فى أنقى صورها. الفنان محمود حامد يطل علينا بتجربته الجديدة من خلال معرضه «طيات السكون»، الذى يحتضنه جاليرى بيكاسو إيست بالتجمع الخامس، ليأخذنا فى رحلة بصرية عميقة تتجاوز حدود الشكل إلى فضاءات الروح والتأمل. رحلة بحث وُلِد حامد فى محافظة الفيوم عام 1963، تلك البيئة الغنية بتنوعها الجغرافى وخصوصيتها الجمالية التى شكلت وعيه البصرى منذ الطفولة، فانعكست ظلالها فى أعماله لاحقًا. تخرّج فى كلية التربية الفنية جامعة حلوان عام 1986، وحصل على دكتوراة الفلسفة فى التربية الفنية تخصص الأشغال الفنية والشعبية، ليجمع فى مسيرته بين الحس الأكاديمى والدفق الإبداعى. تولّى منصب عميد كلية التربية الفنية، وأسهم من خلال موقعه العلمى فى تخريج أجيال من الفنانين الذين تتلمذوا على يديه وتشرّبوا من رؤيته الجمالية العميقة. تجربته ليست امتدادًا لتقليد، بل رحلة بحث دائم عن الجوهر الإنسانى فى الفن.. لحظة صمت فى هذه التجربة يكشف حامد عن فلسفة خاصة، تتجسّد فى توازن دقيق بين الحركة والهدوء، وبين الصخب الداخلى والسكينة الظاهرة، ومن خلال مجموعة من اللوحات المنفذة بالوسائط المتعددة- ألوان أكريلك، وأقمشة، وورق- ينسج حامد عالمًا بصريًا تلتقى فيه المادة بالفكرة، ويتحوّل السكون إلى طاقة خفية تنبض بالحياة. فكل لوحة تبدو كأنها لحظة صمتٍ طويلة، تُخفى فى طياتها حوارًا عميقًا بين اللون والضوء، وبين الذاكرة والحلم. فى عالم الفن، لا يُقاس الجمال بحدة الحركة أو صخب الألوان، بل أحيانًا بقدرة الفنان على الإمساك بتلك اللحظة التى يتوقف فيها الزمن، ويصبح السكون لغة بحد ذاته، فكل لون هادئ يحمل سرًّا دفينًا، وكل مساحة بيضاء ليست فراغًا، بل انتظار لما سيقوله الضوء حين يلامسها، وفى تلك الشخوص والتكوينات التى تتنفس ببطء، يكتشف المتلقى أن الصمت ليس نقيض الحياة، بل هو الحياة فى أصفى حالاتها. ما وراء الأشياء إن الفنان حين يلامس طيات السكون، إنما يلامس ذاته.. يرسم ما لا يُقال، ويُنصت إلى ما لا يُسمع.. كأن الفرشاة تتحول إلى وسيلة للتأمل، واللوحة إلى مرآة للروح، فى كل انحناءة خط، وفى كل تدرّج ضوء، تتجلّى لحظة صدقٍ إنسانى عميق، تسكن ملامح شخوصه وتفاصيل فضاءاته، تُعيد الإنسان إلى جوهره الأول، إلى تلك اللحظة التى يلتقى فيها الهدوء بالجمال، والنظر بالتفكر. «طيات السكون» هى المساحة التى يتصالح فيها الفنان مع العالم، ويصغى إلى صدى ذاته بين الألوان، إنها الشعر الصامت الذى يُكتب بالضوء، واللغة التى لا تُقال بالكلمات، بل تُرى بالعاطفة، وفى زمن يموج بالضجيج والتسارع، يبقى الفن التشكيلى هو الملاذ الآمن، حيث يعلّمنا الصمت كيف نتحدث بلغة الجمال، وكيف نرى ما وراء الأشياء. العودة للبدايات تتجلى فلسفة حامد فى إدراكه العميق لقيمة السكون بوصفه منبعًا للخلق الفنى، ففى زمن يزدحم بالضجيج البصرى والسرعة، يأتى فنه دعوة للعودة إلى البدايات، إلى تلك اللحظة التى تتوقف فيها الحركة ليولد منها المعنى. السكون لديه ليس توقفًا عن الفعل، بل تأملٌ فى جوهر الوجود، ومساءلة لما وراء اللون والضوء.. إنه يرسم الصمت لا بوصفه غيابًا، بل حضورًا يتوهج من الداخل، كأن لوحاته تُصغى إلى نبض الحياة فى أعمق حالاته. هنا تتحول المادة أقمشة، وورق، وألوان إلى كيان روحى، يختزن حكايات الذاكرة، ويستدعى أثر اليد على سطح الزمن. يبقى معرض «طيات السكون» تجربة فنية ناضجة تنبض بالصفاء والعمق، تعكس رحلة فنان يتأمل العالم بعين القلب قبل أن يترجمه بالخامة واللون. فى كل عمل يزرع حامد لحظة من الطمأنينة، كأنه يذكّرنا أن فى السكون جمالًا لا يُدرك إلا حين نصغى إليه. وهكذا يتحول معرضه إلى دعوة للتأمل والإصغاء إلى ما وراء اللون، حيث يتقاطع الجمال بالسكينة، وتُولد من الصمت قصيدة بصرية عنوانها الأبدى: طيات السكون.