في كل مدينة يزورها النور، تظلّ هناك روحٌ تفيض بالسكينة... وفي قلب مدينة طنطا، ما زال عبق رجلٍ غيّر ملامح المكان، ورسم بأفعاله سطورًا من الزهد والهيبة والسرّ. إنه السيد أحمد البدوي، ذاك الرجل الذي لم يكن مجرد وليّ من أولياء الله الصالحين، بل كان مدرسة في التواضع والعلم، ورمزًا يتجاوز حدود الزمان والمكان. وجه لا يُنسى.. وملامح غامضة حين تقترب من سيرته تشعر أنك أمام شخصية تتقاطع فيها الهيبة والوداعة، الغموض والوضوح، الزهد والقيادة. وُلد السيد البدوي في مدينة فاس المغربية عام 596 ه، في بيتٍ تقيّ يفيض علمًا ونسبًا شريفًا يصل إلى الإمام الحسين رضي الله عنه. ومنذ طفولته، كان الصمت رفيقه والتأمل سلوكه، كأنّ في داخله وعدًا لم يُكشف بعد. اقرأ أيضًا| محافظ المنوفية يتفقد جناح جديد بمدرسة السكرية باستثمارات 18 مليون جنيه من فاس إلى طنطا.. رحلة الروح والرسالة رحلته من المغرب إلى مكة ثم إلى مصر لم تكن مجرد انتقالٍ جغرافي، بل كانت رحلة تكليفٍ روحي. جاء إلى طنطا وكأنه يعرف أن هذه المدينة الصغيرة ستغدو محجًّا للأرواح الباحثة عن الطمأنينة. جلس فوق سطح بيته في صمتٍ عجيب، حتى ظنّ الناس أنه لا يتحدث، لكنه كان يُخاطب السماء بلغةٍ لا يسمعها إلا القريبون من الله. البدوي... سرّ في هيئة بشر لم يكن السيد البدوي درويشًا بالمعنى الشعبي، بل كان قائدًا روحيًا وحاميًا للضعفاء، يعلّم الناس الحب قبل العبادة، ويغرس في قلوبهم الإيمان قبل الطاعة. جمع حوله المريدين والأتباع، وكان حضوره مهيبًا، وكأنّ هالة من النور تسبق خطواته. ومن هنا، تحوّل إلى رمزٍ للتجديد الروحي، ومأوى للقلوب التي أنهكتها الدنيا. مولده... موسم الفرح والبصيرة كل عام، حين تُضاء طنطا بالأنوار وتُقام حلقات الذكر والمواويل، لا تكون مجرد احتفالاتٍ بمولد رجلٍ رحل منذ قرون، بل احتفاءً بفكرةٍ لم تمت: أن الإيمان لا يُورّث بالكتب فقط، بل يُغرس في النفوس بالمحبة. فمولد السيد البدوي أصبح مهرجانًا للوجدان المصري، يجتمع فيه الناس من كل الأطياف، مسلمين ومسيحيين، فقراء وأغنياء، وكأنّ الجميع يلتقون على طاولة واحدة اسمها "الإنسانية". بين الأسطورة والواقع كثيرون يروون كراماته، وآخرون يتحدثون عن أسرار لا تنتهي، لكن ما يبقى مؤكدًا أن السيد البدوي كان تجسيدًا للنور الإنساني في زمنٍ كانت فيه القلوب عطشى. لم يكن يسعى للظهور، بل كان يرى أن "الخفاء عبادة". لذلك ظلّ وجهه غامضًا في كل الروايات، وكأن الله أراد أن يترك بعض الأسرار دون أن تُروى. إرث من النقاء ما تركه السيد البدوي لم يكن فقط مسجدًا شامخًا أو مقامًا مهيبًا، بل حالة وجدانية تربط المصريين بجذورهم الروحية. صار رمزا للصفاء والكرم والبركة، وصار ذكره في القلوب راحةً، وفي الوجدان عزاءً. وحين تمرّ بطنطا وتشاهد المآذن تتلألأ، تشعر أن المدينة كلها تبتسم كأنها تقول: هنا مرّ رجل أحبّ الله بصدق، فخلّد الله ذكره بين الناس. السيد البدوي ليس مجرد اسمٍ على ضريح، بل روح حيّة تعلّمنا أن القوة ليست في الظهور، بل في النقاء، وأن السرّ الحقيقي في الإنسان هو ما لا يُقال. ومن يدرك سره، يدرك أن الولاية ليست معجزة... بل صفاء قلبٍ استحقّ أن يكون نورًا بين الناس.