فى كل مدينة هناك أماكن تختبئ فيها الحكايات، أماكن لا تبيع البضائع فحسب، بل تبيع الذاكرة والحنين، فى محل الانتيكات «كاتساروس»، يصبح المكان بطلًا صامتًا، تتنفس جدرانه من عبق الأربعينيات، وتلمع معروضاته كأنها مفاتيح لعصور غابرة لا تزال تبحث عمّن يفتح أبوابها، وبين رنين ساعة قديمة وصوت أسطوانة مشروخة، تبدأ رحلة البطل مع هاتف بلا أسلاك، مكالمة غامضة من زمن آخر، توقظ داخله السؤال الأبدى: هل الماضى وطن نعود إليه، أم وهمٌ نطارده حتى نفقد أنفسنا؟ هنا يكمن سرّ تفرّد فيلم المخرج الشاب محمد الحديدى، وفوزه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مهرجان الإسكندرية السينمائى، حيث استطاع أن يحوّل قصة بسيطة إلى أغنية سينمائية عن الزمن تحاورنا جميعًا، نحن الذين نعتقد أن الماضى أجمل، ثم نفاجأ بأن الأجمل ربما لم يأتِ بعد، لا يكتفى الفيلم بأن يكون حكاية غريبة عن شاب أسير حنينه إلى الأربعينيات، بل يتحول إلى قصيدة بصرية عن افتتان الإنسان بما لا يملكه. البطل يعيش على حافة زمنين: حاضر يرفضه وماضٍ لم يعرفه. وحين يأتيه صوت أنثوى من الهاتف القديم، لا يسمع مجرد كلمات، بل يسمع صدى ذاكرته التى شكلتها حكايات الجد القديمة، والأسطوانات التى تدور على مشغلات غابرة. اللغة السينمائية جاءت مشبعة بروح الحكاية: الإضاءة لم تكن مجرد وسيلة تقنية، بل نبض داخلى يعكس حال البطل بين الحلم واليقظة، الكاميرا تتحرك بهدوء، كما لو كانت تحنى رأسها أمام هيبة الماضى، أما المونتاج، فقد بدا مثل نهرٍ متدفق، يربط بين لحظات الحاضر وأصداء الماضى بلا انقطاع ولا تصنّع الصوت أيضًا لعب دور البطولة الخفية، من رنين الهاتف إلى نبرة الفتاة، مرورًا بموسيقى الأسطوانات، التى شكّلت معًا جسرًا رقيقًا بين زمنين. ذروة الفيلم فى اكتشاف البطل أن الحنين لا يُحيى زمنًا مضى، بل يقتله مرتين: مرة حين نغرق فى تفاصيله حتى ننسى حاضرنا، ومرة حين ندرك أن الماضى نفسه كان يتوق إلى ماضٍ أقدم منه، هذا الإدراك ينقل البطل من الانغلاق فى المحل إلى الخروج مع زميلته إلى المطر، حيث تبدأ حياة جديدة، ليست أقل شاعرية من تلك التى حلم بها فى الأربعينيات، «كاتساروس» ليس مجرد فيلم قصير لطالب جامعى، بل وعدٌ بولادة مخرج يعرف كيف ينسج من الغياب حضورًا، ومن قطعة أثاث قديمة قصيدة، ومن اتصالٍ مستحيلٍ حكايةً قادرة على ملامسة الوجدان.