التفت حبال غزة حول رقبة نتنياهو، وما ظنه انتصارًا على المقاومة، استحال مقصلة لائتلافه الحاكم، ونهاية درامية لمناورات فى مساحات ضيقة، اعتاد رئيس «الليكود» حراكًا بين أشواكها، لتأمين بقائه السياسى لكن قشة التجاوب مع المبادرة الأمريكية، حشرت رئيس الوزراء الإسرائيلى بين أنياب صقرى الائتلاف، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومى إيتمار بن جافير، اللذين رهنا موافقتهما على وقف إطلاق النار فى قطاع غزة بنزع سلاح المقاومة؛ وأرجآ الصدام مع نتنياهو لما بعد انتزاع الرهائن العشرين من قبضة حماس. اقرأ أيضًا | من الميدان للمفاوضات.. كيف تغيَّر ميزان القوى فى غزة؟ وبعيدًا عن التوافق أو الصدام مع نتنياهو، يعتبر الوزيران قرارهما الانسحاب من الحكومة أمرًا حتميًا فى الوقت الراهن، لا سيما أنه يعيد تدوير رصيدهما الانتخابى، ويمنحهما وغيرهما فى معسكر «الصهيونية الدينية» القدرة على مواجهة تحالف المعارضة بقيادة يائير لابيد، الذى أعلن بيانًا مشتركًا بالتزامن مع مفاوضات الخطة الأمريكية فى منتجع شرم الشيخ، يقضى بدعم الخطة من جهة، والعمل على الإطاحة بحكومة نتنياهو خلال دورة البرلمان الشتوية، من جهة أخرى. وأمام اصفرار ورقة الحكومة الإسرائيلية، يعتزم سموتريتش وبن جافير تخليًا عن نتنياهو، واستباق غرق السفينة بالقفز منها، والتفرغ لإعادة رص الصفوف، بما يتسق وواقع تمترس اليمين المتطرف ضد تراجع نتنياهو قسرًا عن احتلال قطاع غزة، وتجميد فكرة ضم الضم الغربية، وربما جنوحه نحو الانفتاح قسرًا على سيناريو إقامة دولة فلسطينية، بعد اعتراف المجتمع الدولى بالخطوة. ولا تغيب تحركات سموتريتش وبن جافير عن ناظرى نتنياهو، خاصة عند التفافه السريع على مواقف الوزيرين، ودعوته إلى إجراء انتخابات مبكرة فى أسرع وقت ممكن، اعتمادًا على نشوة الناخبين بالإفراج عن الرهائن، وهو ما يمكن ترجمته فى صناديق الاقتراع؛ وهو ذات السيناريو الذى سوَّق له نتنياهو بعد حرب ال12 يومًا مع إيران، لكنه تراجع عنه بفعل تشكيك الداخل الإسرائيلى فى إحراز انتصار على الجبهة الإيرانية. ولتسريع وتيرة الخطوة حاليًا، أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلى اعتزامه إجراء انتخابات مبكرة؛ ووفقًا لصحيفة «معاريف»، اتصل مؤخرًا برئيس اللجنة المركزية لحزب «الليكود» الوزير حاييم كاتس، وطلب منه عقد اجتماع للجنة، واتخاذ قرار بشأن إجراء انتخابات مبكرة لقيادة الحزب خلال أسابيع قليلة. وأوعز نتنياهو إلى كاتس بدراسة الجوانب التنظيمية والقانونية المطلوبة للانطلاق نحو عملية انتخابية سريعة، وفى وقت قصير للغاية؛ ملمحًا إلى إمكانية دمج الانتخابات التمهيدية لقيادة «الليكود» مع انتخابات مؤتمر الحزب، المقررة فى 24 نوفمبر المقبل. ويعوِّل نتنياهو فى هذه الخطوة حال تنفيذها على اقتناص تفويض قيادى جديد، يعزز الوحدة الداخلية، ويحبط استباقيًا أى محاولة لتحييد قيادته من داخل الحزب. لكن ذلك يرتبط إلى حد كبير بإعداد أرضية مناسبة، لتقديم موعد الانتخابات العامة، على خلفية تمرير الخطة الأمريكية. لكن خطة ترامب ذاتها، والمفاوضات التى انطوت عليها، قد تغدو سلاحًا لتصفية مصير نتنياهو السياسى، خاصة فى ظل تسريبات أمريكية فتحت مجال «العفو عن حماس»؛ وربما خرجت التسريبات إلى العلن إثر تلميحات الوفد الأمريكى الذى زار تل أبيب مؤخرًا بقيادة المبعوث ستيف ويتكوف، وصهر الرئيس الأمريكى جاريد كوشنر. ووفقًا لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، أقر مسئولون أمريكيون خلال الزيارة بأنه «إذا أرادت حماس حصولًا على عفو، فعليها نبذ العنف»، وأكدوا أهمية اتفاق وقف إطلاق النار بالنسبة للرئيس ترامب، وأن الرسالة التى نقلها إلى مبعوثه ويتكوف قبل وصوله إلى المنطقة، كانت «لا بد من العمل على إحراز الاتفاق». ونقلت الصحيفة عن مصدر أمريكى آخر قوله: «عندما أدركنا أن حماس تريد اتفاقًا، وأنها تنظر إلى الرهائن كعبء لا كأداة، دفعنا ذلك إلى تغيير مسارنا، وحرصنا على بذل كل جهد لحلحلة الأزمة فى القطاع». وزادت صدمة اليمين الإسرائيلى مع جرأة الخطاب الأمريكى، التى أكدت أن «ترامب يتمتع بروح تمكنه من تقويض أى مفاوضات، فضلًا عن استعداده لاتخاذ قرارات حازمة وشجاعة للغاية»؛ وأوضحت دوائر فى واشنطن أن «الرئيس وقف إلى جانب إسرائيل تمامًا، وبالتالى استطاع قيادتها إلى الاتجاه الصحيح». وأثار حديث واشنطن عن العفو المشروط لحماس ردود فعل غاضبة فى تل أبيب، قلبت الطاولة على نتنياهو بشكل غير مسبوق، وزادت ضراوة الأزمة مع ورقة بحثية نشرها الخبير الأمنى الإسرائيلى إيلى بارؤون، ارتأى فيها أن «خطة ترامب فى غزة، تنطوى على فشل استراتيجى بعيد المدى، يضمن تموضع حماس للأبد على «قمرة قيادة» القطاع. وافترض الباحث، وهو رئيس فريق النيران المضادة فى معهد أبحاث الإرهاب بجامعة رايخمان الإسرائيلية، آليات تعامل إسرائيل المستقبلية مع ما وصفه ب«الواقع المأزوم». وجاءت رؤية إيلى بارؤون فى سياق تقرير نشره موقع «نتسيف» العبرى، المقرب من دوائر أمنية فى تل أبيب، وألمحت إلى أن «حماس سوف تحاول، ومن المرجح أنها ستنجح، فى البقاء على «قمرة قيادة» قطاع غزة للأبد»؛ وأشارت إلى أن أدوات تموضع حماس كانت جوهر مسودة الاتفاق، التى جرى التفاوض والتوقيع عليها مؤخرًا برعاية مباشرة من الولاياتالمتحدة». وأوضح الباحث الإسرائيلى أن «الاتفاق يضمن بقاء حماس فى القطاع من خلال مئات الآلاف من أنصارها وقياداتها العسكرية، وهو ما يمنح الحركة فرصة لإدارة القطاع عمليًا، بما فى ذلك إدارة المنظومة التعليمية، والسلطات المحلية، والجهاز الصحي، وغيره من المؤسسات العامة». وحصلت حماس بموجب الاتفاق على شرعية إدارة الأمن الداخلى بأكمله، بما يشمل المنظومة القضائية، والشرطة، والسجون، وجميع مجالات الحياة، بالإضافة إلى إسقاطه مشروع تهجير الغزيين من جدول الأعمال، والإبقاء على تسليح حماس (رسميًا) بالأسلحة الخفيفة عبر جهاز شرطي، يمكن تحوله لاحقًا إلى جيش نظامي، يتكون فى قوامه من ألوية وكتائب نخبوية، حسب التقرير. وأشار بارؤون إلى أن «إعادة إعمار قطاع غزة اقتصاديًا، لن تحول دون ضخ مليارات الدولارات فى خزائن حماس، عازيًا ذلك إلى ما أسماه «طبيعة الأمور فى الشرق الأوسط». أما فيما يخص آليات تعامل إسرائيل مستقبلًا مع الواقع الجديد، فأوصى الباحث الإسرائيلى بالتراجع نهائيًا عما وصفه ب«غباء الإيمان بإمكانية السلام طويل الأمد فى الشرق الأوسط»، وضرورة الانتباه إلى أن «مفهوم السلام الشامل يقتصر فقط على أيدلوجيات لا تعترف بها المنطقة، ولا بد من مواصلة عمل إسرائيل على البناء العسكري، واستخلاص الدروس المستفادة من الحروب الأخيرة، والاستعداد بها لحروب قادمة»! إلا أن ما يزيد أزمة نتنياهو فى ملف غزة، هو اعتزام السلطة الفلسطينية تمرير دورها فى إدارة القطاع مع الحكومة المؤقتة، المزمع تشكيلها بعد «اليوم التالي» للحرب، وفق تعبير قناة «أخبار 12» العبرية، التى قالت إن «رام الله تتأهب لتفعيل دورها فى قطاع غزة بعد انتهاء الحرب. واستشهدت على ذلك بتصريحات الرئيس الفلسطينى محمود عباس للقناة ذاتها، التى قال فيها إن «رام الله بدأت بالفعل فى إجراء بعض الإصلاحات التى طالبت بها الولاياتالمتحدة». وأضاف أن «التغييرات التى بدأت السلطة الفلسطينية فى إجرائها جاءت بعد اتفاق مع الإدارة الأمريكية، يقضى بتسلم رام الله السيطرة على قطاع غزة حال استجابت للمطالب الأمريكية بالإصلاحات».