خلال العام الماضى، ترسخت صورة منصة «تيك توك» باعتبارها المسهم الأكبر فى ترويج الكتب عالميًا، وكنتُ قد كتبت عن دورها هذا من قبل، لكن الجديد هذه المرة، أن المنصة الصينية التى لطالما اقتصرت فى الماضى على ترويج كتابات خفيفة كأعمال كولين هوفر وآخرين من كُتَّاب الروايات الرومانسية وروايات الإثارة والتشويق والرعب وكتب التنمية الذاتية، باتت تلعب دورًا لافتًا فى تحويل كتاب كلاسيكيين عظماء إلى «ترند»، وفى إعادة اكتشاف أعمال جيدة لم تحظ بمقروئية أو اهتمام حين صدورها. حدثت الحالة الأولى مع دوستويفسكى وروايته القصيرة «الليالى البيضاء»، التى وُصِف الاهتمام الكبير بها من قراء جيل «زِد» ب«حمى الليالى البيضاء»، وهو اهتمام أثار أسئلة من قبيل: ما سبب الهوس القرائى بهذه النوفيلا تحديدًا من بين أعمال الروائى الروسى الكبير؟ وماذا لديها لتقوله لقراء الألفية الثالثة، فى منصة تحتفى بالروايات الرومانسية وروايات الأنواع الأدبية الخفيفة فى الغالب؟ وكيف وجدت هذه النوفيلا نفسها فى سياق قرائى جديد يتسابق القراء فيه على نشر صورها رفقة فنجان قهوة أو بتلات ورد، ومشاركة اقتباسات منها وإعداد «بلايليست» خاص بها يحتوى على موسيقى تشايكوفيسكى وشوستاكوفيتش؟ لقد أدى هذا لرفع مبيعات «الليالى البيضاء» (طبعة بنجوين كلاسيكس) لتحتل المركز الرابع فى قائمة أعلى الأعمال الأدبية مبيعًا فى عموم بريطانيا عن عام 2024، بعد أن كانت مبيعاتها محدودة فى 2023. لا خلاف على أن «تيك توك» له الفضل الأول فى تلك النقلة الهائلة فى المبيعات بعد ترشيح العمل من جانب عدد كبير من ال«بوكتوكرز» المشهورين، لكن تفسير اهتمام هؤلاء ب «الليالى البيضاء» وليس «الإخوة كارامازوف» مثلًا، يضع يدنا على توجهات مشهد قرائى أصبح هو المهيمن عالميًا، شئنا أم أبينا. أرجعت ال«بوكتوكر» البريطانية إيلى هوليت سبب «ترند» «الليالى البيضاء» إلى كون العمل قصير، والكتب القصيرة عادة ما تكون جذابة لقراء منصات التواصل الاجتماعى لأنها تضمن لهم إضافة عنوان جديد إلى «تارجت» القراءة الخاص بهم فى «تحديات» القراءة على موقع «جودريدز» وما يشبهه؛ فمثل هذه التحديات تعتمد على الكم، وبالتالى فكتب كل منها فى حدود ثمانين أو تسعين صفحة، ستقرب قارئ هذه المنصات من الفوز بتحدى القراءة أسرع من كتب لا يقل عدد صفحات كل منها عن خمسمائة صفحة مثلًا. قد تبدو هذه النقطة غريبة أو غير مقبولة لنا ولغيرنا ممن يشاركوننا الرؤية نفسها للكتب والقراءة، لكنها معبرة عن واقع جديد فرضته شبكات التواصل الاجتماعي، وعلينا فهمه، بل على اللاعبين الأساسيين فى صناعة النشر الاستفادة منه لإنعاش صناعتهم وزيادة مقروئية إصداراتهم. (كلامى هنا لا يشمل الكتاب أنفسهم، فالإبداع له مواءمات أخرى لا علاقة لها بحسابات المكسب والخسارة، بل تتناقض مع اللهاث خلف الصرعات الرائجة، إن أراد الكاتب أن يبدع عملًا أصيلًا.) بالعودة إلى نوفيلا دوستويفسكي، فثمة سبب آخر تسوقه إيموجين ويست نايتس فى تقريرها عن دور «التيك توك» فى إحياء هذه النوفيلا الروسية، المنشور فى جريدة الجارديان فى ديسمبر الماضي، يتمثل فى كونها تحتوى على قصة حب موسومة بالوحدة والشغف وانفطار القلب، بحيث يمكنها أن تؤثر فى القارئ بغض النظر عن اختلاف الزمن، والأهم أن الراوى يعيش فى خيالاته وفى عالم يخصه وحده، ما يقربه من مستخدمى منصات التواصل الاجتماعى ممن يعيشون ويحبون ويتعاملون مع الآخرين داخل فقاعة افتراضية يرون أنفسهم فيها باعتبارهم الشخصية الرئيسية فى عمل خيالي. أما الحالة الثانية الخاصة بإعادة اكتشاف أعمال لم تنل اهتمامًا كافيًا فى السابق، فتمثلت فى رواية جاكلين هاربمان «أنا التى لم أعرف الرجال» (طبعتها العربية صادرة عن دار جلسة)، وقد اختلف الأمر فى ما يخصها بعض الشيء. فصحيح أنها بدورها مغايرة للذوق السائد على «تيك توك»، وانتقلت فجأة إلى بؤرة الضوء وقمة قوائم الأعلى مبيعًا، إلّا أن تفاصيل تلك النقلة مغايرة لما حدث مع «الليالى البيضاء». فهذه الرواية الصادرة فى طبعتها الأصلية بالفرنسية عام 1996، تُرجِمت إلى الإنجليزية بعد سنوات قليلة من صدورها، ولم تحقق نجاحًا يُذكَر وقتذاك، لكن خلال فترة حكم ترامب الأولى وتصاعد الاهتمام برواية «حكاية الجارية» لمارجريت آتوود وأدب الديستوبيا فى العموم، أُعيد إصدار رواية هاربمان، وبدأت تحظى باهتمام تدريجى حتى باعت مائة ألف نسخة عام 2024 فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. لم يرجع الاهتمام الكبير بهذه الرواية إلى «تيك توك» وحده، بل ساهم فيه ظرف عالمى ديستوبى تعطش القراء فيه إلى قراءة روايات ديستوبية رأوا فيها مرآة تعكس ما يعانونه بعد تكثيفه ودمجه باستعارات تخييلية. لقد تلقف القراء، والقارئات على وجه الخصوص، رواية جاكلين هاربمان ورشحوها لبعضهم البعض، ولاحظ بائعو الكتب هذا، فاهتموا بتوفيرها باستمرار ووضعوها فى واجهات مكتباتهم، بحيث تحولت فى النهاية إلى ظاهرة جديدة فى عالم النشر. وفى الحالتين المذكورتين، وربما فى حالات أخرى قادمة، أثبت «تيك توك» أنه يمثل ثورة فى توسيع شرائح المقروئية والترويج للكتب، مع مخالفة الصورة النمطية الشائعة عن ولع ال«بوكتوكرز» بكل ما هو خفيف وتجارى فقط.