د. محمد سليم شوشة فى تجربتها الروائية الأولى تكشف الكاتبة السعودية أمل الجبرتى عن قدرات وطاقات سردية ممتازة، وتكشف عن طموح كبير فى توظيف السرد فى استكشاف النفس البشرية، واستثماره كذلك فى قراءة التكوين الداخلى للإنسان، وسبر أنماطه وسلوكياته وتشابكاته مع الواقع المحيط وعناصر الكون من حوله. تقدم أمل الجبرتى فى رواية «إعدام غراب»، الصادرة 2025 عن دار سما، مزيجا سرديا خاصا، يبدو حافلا بالثراء الدلالى والجمالى، ويبدو العالم الروائى فيه قادرا على منح المتلقى مزيدا من التشويق والرغبة فى المتابعة واستكمال استكشاف حدود هذا العالم وتفاصيله، وبرغم ارتكاز عالم الرواية وسردها على نموذج شخصية جاكلين منفردة وتمحوره حولها فى نوع من رواية الشخصية بطابعها النفسى، وهى النقيض لرواية الأجيال والرواية التاريخية، نجد أنها برغم ذلك تمثل عملا حافلا بالتفاصيل صاخبا بالحركة، يستثمر ما تموج به عوالم النفس البشرية من الرغبات والنزعات والغرائز والاحتياجات لتكون مجالا للحكى واستكشاف الأسرار وفحص السلوك الإنسانى بأنماطه السلبية والإيجابية. هذه الرواية ذات الطابع النفسى بامتياز، ربما تحتاج إلى جهد فى قراءتها وتحليلها، وبخاصة مع تقديمها لهذا النموذج من البطل الأنثوى المعقد أو المركب الذى تتداخل فيه جملة من العقد النفسية والإشكالات، بما يجعلها نموذجا مثاليا للرمز للإنسان فى المطلق بما يتداخل فى تكوينه من الخير والشر، ولذلك فأتصور أن المدخل الأساسى لقراءة هذا العمل يتمثل فى المداخل النفسية لشخصية جاكلين بما يجتمع فى أعماقها من الخير والشر والنوازع والرغبات المتباينة والمختلفة، هذا النموذج الذى يبدو مثاليا لأنثى ناجحة فى عملها محبة للفن التشكيلى والتحف وعاشقة للموسيقى ومغرمة بالسفر والمغامرات وتغدق الأموال على من حولها، هى فى الأساس قاتلة شبه محترفة بحسب ما يمكن للقارئ أن يستكشف من ألغاز وأسرار لسرد له طابع الكتابة البوليسية بدرجة ما، وإن كان لا يميل إلى هذا النمط البوليسى التقليدى، ويؤثر الكتابة النفسية والسرد التأملى بدرجة أكبر وأكثر من غيره، بما يجعل منه سردا إنسانيا لا يقتصر تلقيه على فئة الشباب أو المغرمين بالرواية البوليسية، بل يصبح كذلك مجالا لنوع آخر من القراء يستكشفون فيه تجارب أخرى حول الوحدة والصداقة والحب والعطاء والتضحية والانتقام والغضب وغيرها من القيم الحياتية التى تجسدها الرواية عبر عالمها وتفاصيلها وأحداثها وذلك الخط الدرامى الذى تسيطر عليه شخصية جاكلين كاسحة فى وجهها مع الزمن عددا كبيرا من العلاقات المختلفة بين الحقيقى والمزيف والصادق والكاذب، بما يجعل الرواية حافلة بالحراك النفسى وحافلة بالتشويق القائم على هذا البعد النفسى بمثل ما تستمد قدراتها التشويقية من مشاهد وأحداث أخرى فيها تجسيد للانتقام والشر. اتصالا بالنقطة السابقة، يمكن ملاحظة أن هذه الرواية ثرية على مستوى القيم والمشاعر الإنسانية التى تجسدها، فمثل ما نجد فيها من الحراك النفسى والتقلبات المزاجية وحالات التوهم والمرض النفسى وغيرها من توابع عاطفية مثل الغضب والحزن والانتقام والملل، نجد فيها تقلبا وتحولا بين اللذة والمتعة والفرح والحزن والزواج والطلاق والوفاء والانتقام والغدر والخيانة والرغبة فى الهيمنة على الآخر، ونجد فيها كذلك مشاعر من اللذة الذهنية المتمثلة فى الغناء والفن والموسيقى والفنون التشكيلية والتمتع بالأطعمة والملابس والسفر والتجول فى المدن الأوربية وكذلك المتعة ومشاعر القلق الناتجة عن المغامرة والسفر فى أوقات غريبة ومفاجئة والاتصال بالغرباء والتحدث إليهم أو الاصطدام بهم، فى عالم مليء بالمفاجآت الصادمة أو اللذيذة. عالم يموج بين الحزن والفرح، بين الضحك والبكاء، تشكله مهارات سردية قائمة على السرد المشهدى المحكم الذى يقترب كثيرا من لغة السينما ويملك القدرة التخيلية الكافية لرسم ملامح وحدود عالم متجسد بكل أبعاده الصوتية والحركية والبصرية، وكذلك الألوان وفى تبادل إيقاعى بين البطء والسرعة، بين الراحة والهدوء والسرد اللاهث الذى يركض فى كل الاتجاهات، وكل هذا فى عفوية وتنوع يشبه ما هى متحقق بالفعل من تنوع فى الحياة الطبيعية، فكأن السرد بالأساس يصبح انعكاسا لما فى الوجود والحياة الطبيعية من حركة وحيوية وأضواء وظلال. فنجد أننا أمام تصوير سردى وتشكيل مشهدى يركز على الزوايا والحركة والألوان والإضاءة، فى حركة تبادلية بين ما فى داخل النفس البشرية وما فى خارجها، وتبادل بين الصخب والسرعة وبين البطء والراحة، مشاهد للبحث والتفتيش والقلق النفسى والأسئلة والحزن والدهشة والغرابة وأخرى للراحة والنوم واستماع الموسيقى والأغانى والرسم وتأمل اللوحات وغيرها الكثير من المشاهد التى تتبادل مع بعضها الأدوار بما يجعل المتلقى فى استقبالها لا يمضى على وتيرة إدراكية واحدة، بل يموج بعدد من الحالات والتوترات التى تختلف من طبيعة مشهد إلى آخر. وكأن المتلقى نفسه أصبح فى حركة موازية لما فى عالم الرواية من حركة، فهو يصبح مشحونا بالأسئلة والقلق والخوف والتوتر والصراع مع الآخر حين تصبح جاكلين فى هذه الحالة، ثم يتحول إلى الاستقرار والمتعة والالتذاذ بالأماكن الفارهة والمطاعم وأطعمتها اللذيذة ويلتذ بالسفر والموسيقى والأشياء على نحو ما يحدث مع جاكلين أيضا، وهكذا فى درجة عالية من المعايشة التامة لبطلة الرواية وبدرجة كبيرة من العفوية والابتعاد عن الاصطناع. فى الرواية كذلك لمحة بصرية ومشهدية فى غاية الأهمية تتمثل فى توظيف المفارقة، حيث نجد أن هناك نسقا من المقابلة القائمة على التناقض بين المشاهد فى صفّها أو انتظامها داخل الخطاب الروائى، ذلك أننا بامتداد العمل الروائى نصبح فى حركة متبادلة بين نمطين من المكان، أحدهما فى غاية الرفاهية والجمال الشكلى والآخر فى غاية القذارة والسوء والتردى والتشوه، وهو ما يسهم فى كسر الرتابة ويحول دون الملل، ويجعل المتلقى دون وعى متقلبا بين حالين مزاجيتين تقومان على التباين أو نسق المفارقة وهى مفارقة ذات طابع جمالى لأن الأشياء بضدها تتمايز وتصبح أكثر قابلية لأن تتبلور فى عقل المتلقى بصورة واضحة. فى الرواية كذلك اهتمام كبير بالتفاصيل البصرية الصغيرة من ملابس وألوان وإضاءة وأنواع للمشغولات والتشكيلات المعدنية والأشياء والأدوات، بما يجعلنا أمام سرد سينمائى يمنح المتلقى تصورا بصريا كاملا ودقيقا ويجعله قادرا على استيعاب حدود هذا العالم وتفاصيله ويسهم فى جعل العالم يتدفق إلى وجدانه وذاكرته بسلاسة، ويسهم كذلك فى صناعة التنوع القائم على المزج الذكى والحساس بين الملموسات والمجردات، فلا تكون هناك غلبة لعالم النفس والقيم بطابعها التجريدى أو العكس من غلبة الأشياء الحسية والمادية الملموسة، بل يصبح هناك نوع من التوازن الذكى بين النمطين. والرواية كذلك حافلة بالتوتر والتشويق القائم على ما يمكن تسميته بتوترات السرد البحثى، فالشخصية المركزية فى الرواية تبدو فى حال من البحث اللانهائى، تفتش عن اللذة والسعادة والحقيقة، وتفتش عن الصدق والحب والعشرة وغيرها من الأشياء، وهى برغم كونها تملك أشياء كثيرة لكنها فى الوقت نفسه تبدو فى غاية الفقر والانتقاص والحاجة لأن تكمل هذا النقص، فى تمثيل رمزى بارع لنموذج الإنسان فى المطلق، فكأن شخصية جاكلين هى خلاصة تجربة كل إنسان، فتكون قصتها قابلة لأن تنطبق على كل حكايات البشر بما يعيشون من ركض دائم وراء الحقيقة واستكشاف ملامح الذات ومعرفة هويتهم أو إدراك حقيقتهم وحقيقة العالم من حولهم، وتصبح حقيقة الذات المفردة فى هذه الحالة مرهونة بعلاقاتها بما حولها من الأفراد، أو علاقة الذات بالآخر.