لم تعد الترجمة مجرد جسر لغوى تنقل بها الإنسان بين الثقافات، بل أصبحت ميدانا لقدرات العقل البشرى وإمكانات الذكاء الاصطناعى. فمن جهة، يقف المترجم البشرى مسلحا بخبرته ووعيه وسياقه الثقافى، ومن جهة أخرى تندفع تقنيات الذكاء الاصطناعى بسرعة مذهلة، قادرة على معالجة ملايين الكلمات فى ثوانٍ، وبين هذين العالمين يثور السؤال الأهم: هل سيظل المترجم البشرى سيد الكلمة والمعنى، أم أننا على أعتاب عصر تصبح فيه الترجمة حكرًا على الآلة؟ وعلى طريقة الناقد الشهير «رولان بارت» فى كتابه «موت المؤلف» نتساءل هل يعلن الذكاء الاصطناعى موت المترجم؟ شهادات الخبراء والأكاديميين تكشف أن المسألة أعقد مما تبدو، وأن الصراع ليس مجرد منافسة، بل معركة بين الإبداع والآلة. قال د. طارق عبد البارى، أستاذ علوم الأدب والحضارة الألمانية وعلوم الاصطلاح بجامعة عين شمس: إن الذكاء الاصطناعى بات يغطى مساحة واسعة من الترجمة، وأصبح قادرًا على إنتاج مستويات عالية الدقة من الترجمات التى ينجزها مترجم ضعيف أو متوسط المستوى، ومع ذلك، سيظل وجود المترجم الخبير أمرًا لا غنى عنه، على الأقل فى أجيال الذكاء الاصطناعى الحالية، وحتى تصل التقنيات إلى مستويات أكثر تطورا كما هو متوقع. وأوضح أن هناك أنواعًا من النصوص متعددة المعنى لا يمكن للآلة النفاذ إلى أعماقها إلا بمساعدة المترجم البشرى الخبير، خصوصًا فى مستوى المصطلحات الدقيقة والمعقدة التى يرى أنها ستظل حكرًا على البشر «إلى ما شاء الله»، فالترجمة الاصطلاحية، بحسب وصفه، تحتاج إلى وعى لغوى وثقافى عميق لا يمكن أن تنشئها الخوارزميات وحدها. ويرى عبد البارى أن الذكاء الاصطناعى يمثل فرصة حقيقية للتخلص من المترجمين غير المحترفين أو منتحلى صفة المترجم، لأنه قادر على إنجاز أعمالهم بكفاءة أكبر، لكنه شدد فى الوقت ذاته على أن الترجمات الناتجة عن الذكاء الاصطناعى تحتاج دومًا إلى عين المترجم الخبير، الذى يستطيع أن يلتقط مكامن الخلل بحكم خبرته الطويلة، مؤكدا أن أى خطأ بسيط فى الترجمة، خصوصًا فى العقود القانونية أو الوثائق الرسمية، يؤدى إلى كوارث، ولهذا فإن دقة الترجمة يجب أن تقترب من 100%، وإلا فإن النص يصبح مصدرًا لمعلومة خاطئة. أشار إلى أن هناك مجالات ترجمة لن يستطيع الذكاء الاصطناعى اقتحامها، مثل النصوص الأدبية والفلسفية، التى تتميز بتعدد المعانى وعمق الدلالات، فكلما ازداد النص ثراءً وتعددًا فى معانيه، دلّ على عمق فكر صاحبه، وهو ما لا تستطيع الآلة إدراكه، لأن اللغة- فى جوهرها- مرتبطة بالوجدان والشعور الإنسانى، فالنص الأدبى الرفيع أو النصوص المقدسة تكشف معانى جديدة مع مرور الزمن، وهو ما يعجز الذكاء الاصطناعى عن محاكاته رغم تطوره. وأوضحت الأكاديمية والمترجمة، د.هبة شريف، أن تطور الذكاء الاصطناعى يسير بوتيرة مخيفة، غير أنه فى مرحلته الحالية لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كامل فى الترجمة، لأنه يعتمد إلى حد كبير على الترجمة الحرفية، وهو ما يؤدى غالبًا إلى أخطاء فى المعنى. وأشارت إلى أن العلاقة بين المترجم البشرى والذكاء الاصطناعى فى الوقت الراهن هى علاقة مساندة لا شراكة، متوقعة أن تتطور مستقبلًا لتصبح أقرب إلى الشراكة الحقيقية، لكنها شددت على أن الذكاء الاصطناعى يظل اليوم مساعدًا ثانويًا لا يمكنه منافسة المترجم البشرى، خاصة فى ترجمة الكتب، التى ترى أنها تحتاج جهدًا إبداعيًا وثقافيًا لا تستطيع الآلة إنجازه. وأضافت أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعى فى ترجمة الكتب فقط لاعتبارات السرعة أو انخفاض التكلفة سينتج عنه كتب غير مفهومة وغير مقروءة، مؤكدة أن المترجم الذى يلجأ إلى الذكاء الاصطناعى دون مراجعة دقيقة أو تعديل سيقدم بالضرورة ترجمة رديئة، وبينت أن مجالات الاستخدام الممكنة للذكاء الاصطناعى تقتصر على النصوص البعيدة عن الإبداع أو المصطلحات متعددة المعنى، ويقتصر دوره حاليا على المجالات حيث تصلح الترجمة الحرفية فيها بدرجة أكبر. وشددت على أن الوضع الحالى يكشف عن قصور كبير فى قدرات الذكاء الاصطناعى، فهو غالبًا ما يغير المسميات المتداولة أو المصطلحات التاريخية لأنه لا يدرك السياق أو الخلفيات المعرفية للنصوص، لذلك لا يمكن الاعتماد عليه اعتمادًا كاملًا، بل يجب مراجعة نتائجه بدقة قبل اعتمادها.. وأكد الروائى والمترجم، خالد أمين، أن المترجم البشرى سيظل موجودًا وضروريًا وحتميًا، خاصة فى مجال الترجمة الأدبية، موضحًا أن التاريخ يثبت أن الإبداع الإنسانى لا يمكن أن يُمحى مع كل تطور تكنولوجى، وضرب مثالًا بما حدث عند ظهور التلفاز فى ستينيات القرن الماضى، حيث سادت آنذاك مقولات تتنبأ بانتهاء الكتب، لكن الإبداع الأدبى استمر وازدهر رغم تلك التوقعات. وأشار إلى أن القارئ قادر على التمييز بين الترجمة البشرية والآلية، فالترجمة الأدبية ليست مجرد نقل كلمات من لغة إلى أخرى، بل هى عملية نقل للتجربة الإبداعية بكل ما تحمله من مشاعر وأحاسيس، بما يتناسب مع ثقافة المجتمع المتلقى، وأبدى استغرابه من فكرة إمكانية توليد نصوص إبداعية عبر الذكاء الاصطناعى، مشددًا على أن ما يميز الأدب هو اللمسة الإنسانية التى لا يمكن للآلة محاكاتها. وتابع أن القراءة فى جوهرها عملية غامضة تعتمد على الإحساس والشعور، خاصة فى الروايات، حيث يميز القارئ بسهولة بين الترجمة الجيدة والفقيرة. أعرب أ.د أسامة غازى المدنى، أستاذ الإعلام البديل بجامعة أم القرى فى السعودية، عن اعتقاده بأن العلاقة بين المترجم البشرى والذكاء الاصطناعى تتجه نحو التكامل لا الاستبدال، موضحًا أن الذكاء الاصطناعى سيُحدث تحولًا جذريًا فى طبيعة عمل المترجم، لكنه لن يتمكن من أن يحل محله بالكامل، خصوصًا فى المجالات التى تتطلب فهمًا عميقًا للسياق الثقافى والفروق الدقيقة فى المعانى. وأكد المدنى أن التدخل البشرى سيظل ضروريًا لمراجعة وتحرير مخرجات الترجمة الآلية، ضمانًا للدقة. واختتم قائلًا إن المترجم البشرى سيبقى عنصرًا محوريًا فى العملية، لكن دوره سيتحول من مجرد ناقل للنصوص إلى محرر سياقى وخبير جودة، يعيد صياغة ما تنتجه أدوات الذكاء الاصطناعى. أكدت دكتورة هالة الألفى، مدرس الإعلام المسموع والمرئى والوسائط المتعددة وخبيرة الذكاء الاصطناعى المعتمدة، أن تقنيات الذكاء الاصطناعى أحدثت طفرة هائلة فى مجال الترجمة، إذ أصبح بإمكان أى شخص ترجمة نصوص من أى لغة حتى دون معرفته بها، لافتة إلى أن هذا التطور يحمل فى طياته مشكلة جوهرية. وعلى الصعيد الأخلاقى، أشارت دكتورة هالة الألفى إلى أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعى فى الترجمة العلمية يطرح مشكلات متعددة، أبرزها أن النصوص تُترجم حرفيًا دون نسب للمصادر، مما يوقع الباحث فى مأزقين، الأول أن المحتوى لا يعد أصليًا بل منسوخًا، والثانى أن أدوات التدقيق الأكاديمى تكشف أن العمل إما مولد بالكامل عبر الذكاء الاصطناعى أو معاد صياغته به، وهو ما يضعف مصداقية الباحث.. يكشف الجدل الدائر بين الأكاديميين والمترجمين والباحثين أن الذكاء الاصطناعى أحدث تحولًا جذريًا فى عالم الترجمة، غير أن هذا التحول لم يصل بعد إلى مستوى الإحلال الكامل، فالتقنيات الحديثة نجحت فى تسريع عمليات البحث والتمهيد أمام المترجمين، لكنها أخفقت فى مضاهاة العمق الإنسانى المطلوب لفهم النصوص الأدبية والفلسفية والمعقدة.