بدر عبدربه أحمد لم يكن صباحًا مختلفًا ضوء الشمس ذاتُه، صوت الباعة ذاته، وحتى العجلة التى أركبها كل يوم إلى العمل بدت كما هى لكنَّ شيئًا ما فى الشارع كان ناقصًا.. شيئاً لا يُرى ولا يُقال، بل يُحسُّ فقط. فى طريقى المعتاد، ألقيت السلام على عم توبة البقال، فردّ علىَّ ببسمته المعتادة: – أسعد الله صباحك يا أستاذ توفيق. لكن على ناصية الشارع التى تسكنها دكانة الأسطى ممدوح بدت مغلقة على غير عادتها توقفت لحظة، تطلعت إلى القفل الصدئ والباب الموصد، ثم قلت لنفسى: – لعلّه تأخر فقط... سأطمئن عليه عند عودتى. فى العمل، عاتَبنى المدير لتأخرى، رغم أنها كانت المرة الأولى، لكن مزاجه الحاد لم يكن يحتاج إلى مبررات مرّ اليوم ثقيلًا، وما خفّف وطأته إلا أملى بأن أجد دكانة الأسطى ممدوح مفتوحة عند الرجوع. لكنها لم تكن. دخلت إلى محل عم سامح الترزى، وسألته بقلق: – ممدوح باشا، ماله النهاردة؟ قافل ليه؟ هزّ رأسه بأسى: – مراته قالت إنه تعبان شوية، وبإذن الله هيقوم بالسلامة. تنفّست بارتياح وقلت: طيب الحمدلله. وعند مرورى فى اليوم التالى، رأيت أنه لم يفتح أيضًا. ذهبت إلى عملى ثم عدت وقد قررت أن أزوره وصلت إلى ناصية منزله، لأجد زوجته جالسة على الأرض، تذرّ التراب على رأسها، وتصرخ. تكسّرت يداها على صدرها، كأنها تحاول الإمساك بشىء ينفلت منها.. أو بحياة تنفلت. ساعتها، عرفت أن الأسطى ممدوح قد رحل. تجمدت فى مكانى. تذكّرت يديه، حين تتلطّخان بالزيت والتراب وهو يصلح عجلاتنا القديمة. كانت يداه تتّسخان دومًا، واليوم... عاد إلى التراب ذاته، وكأن العمر كله كان تجهيزًا لهذه اللحظة. فى العزاء، جلست فى الصفوف الأمامية، أستقبل المعزّين. شعرت أننى لا أودّع رجلاً فحسب، بل أودّع فصلاً من حياتى، ورائحة طفولتى، وذكرياتى أثناء زيارتى لمحله. تسلل إلى ذاكرتى أيام الطفولة، يوم تأخرت فى إعادة العجلة إليه، وبدل أن يوبخنى، قال لى بنبرة نصف صارمة ونصف حنونة: – خد الساعة دى على حسابى... بس ما تتأخرش تانى. لا أنسى ضحكته، ولا تلك المرة حينما قال لى مازحًا وهو يصلح دراجتى: – مالك يا توفيق؟ صدرك باين عليه زى فردة العجلة ال16! كان كلما أتذكر ذلك الموقف، أكاد أسقط على الأرض من كثرة الضحك. وبعد الانتهاء من مراسم العزاء، عدت إلى بيتى، دخلت غرفتى، ونظرت إلى العجلة فى الزاوية. كنت واقف متصلبًا، كما لو أنى كرهت فكرة قيادتها مرة أخرى. ولكن حاولت أن أضع يدى على المقود، وسألت نفسى: – يا ترى لما تعطل هاروح أصلحها عند عجلاتى غيره؟ مرت أيام من الحيرة، والتفكير، ثم حسمت أمرى. قررت أن أبيع العجلة.