باتت المحاكم الفرنسية والأمريكية مسرحًا لقضية أصبحت منتشرة على نطاق واسع في أنحاء العالم، تبناها أصحاب نظريات المؤامرة وأنصار اليمين المتطرف، تتمحور حول هوية بريجيت ماكرون زوجة الرئيس الفرنسي، والذي رفع دعاوى تشهير ضد العديد من مروجي تلك الشائعات. وعلى الرغم من أن تلك الشائعة تفتقر إلى أي دليل ملموس، إلا أنها أصبحت واحدة من أكثر الموضوعات إثارة للجدل في السنوات الأخيرة في فرنسا وأوروبا، وتحولت من مجرد منشورات فيما يعرف بالإنترنت المظلم، إلى معارك قانونية شرسة يخوضها الرئيس إيمانويل ماكرون للدفاع عن شريكة حياته والسيدة الأولى وكرامة منصبه كما يقول. وخلال الأيام الماضية، اكتسبت القضية زخمًا كبيًرًا، ووصلت إلى قمة الترندات على منصات التواصل الاجتماعي، بعدما اتخذ الرئيس الفرنسي وزوجته قرارًا، بتدويل القضية إلى خارج الحدود الفرنسية، والبدء في استهداف مروجيها في أقاصي الأرض، وصلت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولكن تلك الشائعات، لم تولد من فراغ، بحسب وسائل الإعلام الفرنسية، بل استمدت قوتها من الفجوة العمرية بين إيمانويل ماكرون وهو من مواليد 1977، وزوجته بريجيت وهي من مواليد 1953، حيث يصل الفارق بينهما حوالي 24 عامًا، وهو ما جعل الموضوع أرضًا خصبة لمروجي نظريات المؤامرة. بدأت الشائعات، التي وصفوها ب الخبيثة، تظهر بشكل أساسي على منصات التواصل الاجتماعي والمدونات اليمينية المتطرفة والمواقع المؤيدة لنظريات المؤامرة في حوالي عام 2016، مع صعود ماكرون السياسي، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2017، اكتسبت هذه الادعاءات بعدًا آخر. في ذلك الوقت، تحولت بريجيت ماكرون، بطريقة غير مسبوقة، إلى هدف لهجمات شخصية تركز على هويتها الجنسية، مستغلين البيئة السياسية والحملات الانتخابية المليئة بالتشهير، حيث لم تعتمد الشائعات على أي حقائق، واعتمدت فقط على التلاعب بالصور القديمة، والمقارنات. النار فى الهشيم كانت القصة الرئيسية، هي أن بريجيت ماكرون في الواقع شخصية مُعاد تشكيلها جنسيًا تدعى «جان ميشيل تروجوكس» وهو اسم زعمت مرارًا أنه مُختلق بالكامل ولا يرتبط بأي شخص حقيقي في ماضيها، إلا أنها انتشرت كالنار في الهشيم في جميع أنحاء العالم عبر منصات التواصل الاجتماعي. تزعم النظرية أن بريجيت ماكرون، المولودة باسم تروجنيوكس، لم تكن موجودة قط، بل إن شقيقها، جان ميشيل، اتخذ هذه الهوية بعد تغيير جنسه، وظهر العديد من الكتاب والمؤثرين الذين يعدون أسماء رئيسية في ترويج هذه الشائعة، وكثير منهم واجه دعاوى قضائية من ماكرون وزوجته. ومع الانتشار الواسع للمنصات العالمية مثل تيك توك وتليجرام، قام المؤثرون من مختلف أنحاء العالم خاصة في الولاياتالمتحدة وشرق أوروبا، بإنشاء المحتوى الرئيسى سريع الانتشار يكرر نفس النظرية، تحت عناوين جاذبة مختلفة مثل تفاصيل القضية أو الكشف عن الحقائق المخفية. في فرنسا كان المروج الأكثر شهرة لتلك النظرية، شبكة من المدونين في دوائر اليمين المتطرف، والتي لعبت دورًا محوريًا في تضخيم الشائعة، بجانب كتاب ومؤثرين، والكثير منهم واجه دعاوى قضائية نتيجة ذلك، منهم الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري الذي يتمتع بشعبية في أوساط اليمين واليسار المعارضين، وكان سببًا في تغذيتها. مدونون ومغردون ومنذ بداية الأزمة، رفض قصر الإليزيه، مكتب الرئاسة الفرنسية، البداية التعليق على هذه الشائعات بشكل مباشر، ولكن عندما تجاوزت هذه الادعاءات حدود النشر العشوائي وتحولت إلى تشهير منظم لماكرون وزوجته، حيث لم ترفع الدعاوى القضائية باسم بريجيت أو ماكرون كأفراد، ولكن نيابة عن رئاسة الجمهورية كمنصب مؤسسي. ويرجع الهدف من ذلك، وفقا للصحف الفرنسية، إلى حماية كرامة المؤسسة الرئاسية ومكافحة التضليل الإلكتروني الذي يهدد الاستقرار الديمقراطي، حيث تعتمد الاستراتيجية القانونية للقصر على قوانين موجودة لمكافحة التشهير والمضايقة عبر الإنترنت وتشمل التهم الشائعة التحريض على الكراهية ونشر معلومات كاذبة بهدف الإضرار بالآخرين. ورفع مكتب ماكرون عشرات الدعاوى ضد مدونين ومغردين فرنسيين وآخرين من جنسيات مختلفة لنشرهم هذه الشائعة، وكثيرًا ما انتهت هذه القضايا بإدانات، وتراوحت العقوبات ما بين الغرامات المالية والحبس مع وقف التنفيذ، إلى أوامر بإزالة المحتوى المخالف من على السوشيال ميديا. وكان من أبرز المروجين لتلك الشائعة خارج الأراضي الفرنسية، الكاتب الروسي إيجور لاشري، والذي كان هدفًا رئيسيًا للدعاوى القضائية الفرنسية، وحكمت محكمة باريس ضده غيابيًا بالسجن لمدة 6 أشهر ودفع غرامة قدرها 5000 يورو بتهمة المضايقة العامة، كما أمرت المحكمة بدفع 10 آلاف يورو كتعويضات لرئاسة الجمهورية. قضايا وأحكام قضائية أيضا أسهمت مؤثرتان فرنسيتان تدعيان ناتاشا ري وأماندين روي، في انتشار الشائعة بشكل كبير في فرنسا وأوروبا، عبر قيامهما ببث حلقة على وسائل التواصل الاجتماعي، استمرت لأكثر من أربع ساعات، حيث نشرتا خلال المقابلة صورا لبريجيت ماكرون وعائلتها، وناقشتا الإجراءات الجراحية التي يُزعم أنها خضعت لها، وادعيتا أنها ليست والدة أطفالها الثلاثة، وقدمتا معلومات شخصية عن شقيقها. لكن في منتصف يوليو الماضي، برأت محكمة الاستئناف في باريس المؤثرتان، وقضت بأن القول بأن شخصًا ما متحول جنسيًا وإخفاؤه لذلك لا يُشكل اعتداءً على شرفه أو سمعته، وأن البراءة مبنية على عدم وجود تصنيف جنائي للتصريحات، وليس على صحتها، ولكن بريجيت ماكرون وشقيقها استئنفا ضد الحكم. وفي سبتمبر أدانت محكمة أول درجة في باريس المؤثرتين، وحكمت عليهما بغرامة مع وقف التنفيذ قدرها 500 يورو، بالإضافة إلى دفع تعويضات إجمالية قدرها 8000 يورو لبريجيت ماكرون، و5000 يورو لشقيقها جان ميشيل تروجنيوكس، وكلاهما طرفان مدنيان في المحاكمة. وفي الولاياتالمتحدة، ازدهرت القضية على نطاق واسع بعد أن استغلتها المؤثرة الأمريكية الشهيرة كانديس أوينز، التي تتبع اليمين المتطرف ونظريات المؤامرة، حيث شاركت سلسلة فيديوهات منذ يناير الماضي بعنوان «أن تصبح بريجيت»، مفادها أن بريجيت ماكرون «ولدت رجلا». ورفع إيمانويل وبريجيت ماكرون دعاوى قضائية بتهمة التشهير، ضد المؤثرة الأمريكية وطالب ماكرون وزوجته بتعويضات، كون المؤثرة الأمريكية على علم تام بزيف الادعاءات، ورفضت باستمرار طلبات التصحيح، وأنها مصرة على حملة التشهير ضدهما من أجل كسب المال والشهرة، بسبب ما لديها من مشتركين يصلون الآن 6.9 ملايين مشترك في حسابها على X و4.7 مليون مشترك على يوتيوب. دفاع عن الشرف وحول ذلك أكد الرئيس الفرنسي؛ أن المعارك القانونية التي يخوضها ليست مجرد دفاع عن شرف عائلته فقط، ولكنها محاولة لرسم خط فاصل بين حرية التعبير المقدسة في الديمقراطيات، وبين حملات الكراهية والتشهير المنظمة التي تهدف إلى تقويض الثقة في المؤسسات وإيذاء الأفراد، وندد بما وصفه بالهراء والأخبار الكاذبة، حتى وصل الأمر إلى الولاياتالمتحدة، وشدد على أنه سيبذل قصارى جهده لإدانة المؤثرة الأمريكية. أما زوجة الرئيس الفرنسي، فأكدت أنها في البداية، نظرتُ إلى الأمر من مسافة بعيدة بعد أن سمعت به، ثم أدركت في مرحلة ما أنهم يشوهون نسبها، حيث كما تقول، غيروا شجرة عائلتها، ثم تطرقوا إلى نسبها بالكامل، مؤكدة أن الأمر استغرق منها 5 أيام مع محامي كبير لتتمكن من المضي قدما وزوجها في محاسبة هؤلاء. وكشفت الإحصائيات، التي نشرتها وكالة فران برس؛ أن الترند الشهير الذى ارتبط باسم زوجة ماكرون ظهر لأول مرة في نوفمبر 2021، وظلت الكلمة المفتاحية بعيدة عن الأنظار قبل أن تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في شعبيتها فى ديسمبر الماضي، حيث حقق التريند 63 ألف إعادة تغريدة خلال شهر واحد فقط، وغالبا ما يصاحبها رسائل معادية لرئيس الدولة. ويرى المحللون أن استمرار هذه الشائعة رغم عدم وجود أدلة ودعمها بالعديد من الإدانات القضائية يشير إلى ظواهر اجتماعية وسياسية أعمق، حيث استخدمت كسلاح سياسي لتقويض شرعية الرئيس ماكرون، ووصفه بأنه «خاضع» ل «أجندة عالمية»، بجانب اقتصاد ما وصفوه بالرقمنة الذي يحتاج إلى المحتوى الصادم والمثير للجدل لجذب المشاهدات. اقرأ أيضا: ماكرون وزوجته يلجآن إلى القضاء الأمريكي في تهمة التشهير