لم يعد التهديد الأكبر الذي يواجه الولاياتالمتحدة نابعًا من خصومها الدوليين أو من صراعاتها الجيوسياسية، بل من الداخل، حيث تتفاقم أزمة الديون إلى مستويات غير مسبوقة، وسط مؤشرات اقتصادية مقلقة قد تفتح الباب أمام انهيار واسع. فالمشهد لم يعد مجرد أرقام مالية جامدة، بل أزمة صامتة تتسع رقعتها عامًا بعد عام. إرث الاقتراض الطويل على مدى أكثر من ربع قرن، اعتادت الحكومات الأمريكية المتعاقبة، سواء ديمقراطية أو جمهورية، على مواجهة الأزمات بالاقتراض، من الركود العالمي إلى الحروب والأوبئة، كان الحل دائمًا مزيدًا من الديون، وبفضل مكانة الدولار كعملة احتياطية أولى في العالم، لم تجد واشنطن صعوبة في جذب المستثمرين إلى سنداتها، حتى بدا وكأنها تعيش على "وجبة مجانية" بلا نهاية. لكن هذا النمط بدأ يتصدع مع ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل، فكل زيادة بمقدار نقطة مئوية واحدة في الفائدة تعني إضافة 370 مليار دولار سنويًا إلى فاتورة خدمة الدين الأمريكي، وهو عبء ضخم على اقتصاد مثقل أصلًا بالتزامات قياسية. أرقام صادمة في العام المالي 2024، أنفقت الولاياتالمتحدة 850 مليار دولار على ميزانية الدفاع، بينما دفعت 880 مليار دولار لخدمة الدين العام، في مشهد يختصر حجم الأزمة، ومع خفض وكالات التصنيف الائتماني تصنيف الديون الأمريكية، بدأت ثقة الأسواق العالمية تتزعزع، في وقت تتنامى فيه الشكوك حول قدرة واشنطن على ضبط ماليتها العامة. وحذّرت مجلة "فورِن أفيرز" من أن أي تراجع في استقلالية الاحتياطي الفيدرالي قد يؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا، برفع تكاليف الاقتراض بدل خفضها، ما قد يفتح الباب أمام نزوح رؤوس الأموال وهروب المستثمرين. سيناريوهات قاتمة الدولار الذي لطالما شكّل ركيزة القوة الاقتصادية الأمريكية لم يعد محصنًا كما كان. ومع تفاقم الدين، تتزايد المخاوف من أن تقلص البنوك المركزية حول العالم احتياطاتها بالدولار، لصالح اليوان الصيني أو اليورو أو حتى العملات الرقمية. وفي حال تراجع الطلب على سندات الخزانة، سترتفع تكلفة خدمة الدين أكثر فأكثر. أما التوقعات المستقبلية فتبدو أكثر سوداوية؛ إذ تشير تقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس إلى أن العجز سيبلغ 1.8 تريليون دولار في 2024، ما يعادل 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى غير مسبوق في زمن السلم. وإذا استمرت السياسات نفسها، فقد يقفز الدين بحلول عام 2054 إلى نحو 172% من الناتج المحلي الإجمالي، أو أكثر. نهاية "الغداء المجاني" يحذر الخبراء من أن الولاياتالمتحدة تبدو اليوم كمن يقف على حافة هاوية، مثقلة بديون تبلغ 37 تريليون دولار. ورغم ما يتمتع به الاقتصاد الأمريكي من مرونة، فإن التاريخ يذكر بأن أي إمبراطورية تجاهلت خطورة ديونها دفعت ثمنًا باهظًا. قد يكون الانهيار المقبل مفاجئًا كسقوط صاعقة، أو بطيئًا كزحف الرمال، لكن المؤكد أن عصر الاقتراض بلا حساب قد انتهى، وأن واشنطن تدخل مرحلة اختبار هي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية.