عبور آمن من محنة كورونا.. وعامل مزلقان بنى سويف «بطولة بدون أضواء» حريق سنترال رمسيس أظهر شهامة الشعب فى زمن الشدائد تتجلى معادن الأمم، وقد كتب المصريون فى دفتر الأزمات صفحات من نور؛ فمن تكاتفهم فى جائحة كورونا، إلى شجاعتهم فى حريق سنترال رمسيس، وصولًا إلى بطولة «طارق» عامل مزلقان كوبرى السادات ببنى سويف الذى خاطر بروحه لينقذ شابًا من الدهس قبل لحظات من مرور القطار، ثم كُرّم رمزًا للشهامة المتوارثة جيلاً بعد جيل. ففى الحقب القديمة، حين تلاطمت أمواج الفيضانات، اجتمع الفلاحون لمواجهة الخطر بإصلاح السدود والقنوات، وخلال الحروب والمجاعات والأوبئة، شهدنا مئات القصص التى تحكى عن الشهامة والفداء، وجاءت أزمات مثل جائحة كورونا، وحريق سنترال رمسيس لتؤكد أن الخير باقى طالما بقت المحروسة. «الأخبار» رصدت بعض المواقف والقصص المشرفة للمصريين وكيف تكاتفوا خلال الأزمات ليثبتوا أن « لسه فيها حاجة حلوة». الجيران لبعضها خلال جائحة كورونا وقف المصريون فى طوابير لمساعدة الفقراء، و تبرعوا بالدم، وساندوا العاملين فى الخطوط الأمامية بالرعاية والدعم النفسي، كان الجميع يشارك فى حملات التعقيم والتوعية، مظهراً معدن الشعب الأصيل، وبمبدأ «الجيران لبعضها» تم تنظيم حملات تطوعية من الشباب لإرسال الطعام دون مقابل لمنازل المصابين وكل لوازمهم وكذلك حملات التعقيم والتوعية للتعايش مع الأمراض وكذلك بروتوكول العلاج وأهمية اللقاحات. المصريون فى الخارج أيضا دشنوا مبادرات مثل « يلا نتطمن على بعض» و مبادرة «ملوك الجدعنة» بهدف التواصل والاطمئنان والمساعدة فى توفير بعض الاحتياجات من طعام أو علاج وغيره فى ظل الجائحة. ومؤخرًا، وفى حادثة حريق سنترال رمسيس التى أثرت على ملايين المواطنين، شهدنا تجسيدًا جديدًا لروح الجدعنة المصرية، حيث تفاعل الناس مع الأزمة بشكل فوري، ساعدوا بعضهم البعض على تخطى الأضرار وتفادى التلفيات، ووقفوا بجانب المتضررين، متجاوزين أى خلافات أو تباينات. مش هتطير يقول الصحفى أحمد شعراني، أنه عاش يومًا استثنائيًا وسط تداعيات حريق سنترال رمسيس، الذى كشف للجميع اعتمادنا بشكل شبه كامل على التكنولوجيا، ومدى شهامة المصريين فى وقت الأزمات. يقول شعرانى إنه مع بداية الأزمة، قرر أن يخرج لتناول الغداء فى أحد المطاعم الشهيرة بشارع مصدق بمنطقة الدقى بالجيزة، دون أن ينتبه إلى أنه لا يحمل نقودًا ورقية، إذ اعتاد الدفع بالفيزا أو تطبيقات الهاتف لتحويل الأموال، تناول وجبته كالمعتاد، لكنه فوجئ كغيره من رواد المطعم بعد الشراء، بأن جميع ماكينات الدفع متوقفة، وكذلك أجهزة الصراف الآلى فى المنطقة بأكملها. وروى شعرانى أن مدير المطعم اتخذ قرارًا مفاجئًا وشجاعًا، حين قال للجالسين: «اتفضلوا ولما الدنيا ترجع ابقوا حولوا الفلوس.. الدنيا مش هتطير»، متجاهلًا اعتراض بعض العاملين، ليخرج شعرانى من المطعم دون أن يسأله أحد عن اسمه أو هويته. حينها أدرك شعراني، كما الملايين غيره، حجم الكارثة حين تعطلت كل وسائل الاتصال والتعاملات المالية دفعة واحدة، فلم يستطع الاطمئنان على أبنائه فى المنزل، أو سحب أمواله أو دفع أى شيء، ولا حتى ممارسة عمله الصحفي، بعد أن توقف الإنترنت وتوقفت معه الحياة.. لم تكن هذه نهاية يومه، فبعد اجتماع عمل، جلس على مقهى مع عدد من أصدقائه، ممن واجهوا نفس الأزمة، وتقاسموا ما معهم من أموال ورقية، وحين قرر العودة إلى منزله مساءً مستخدمًا أحد تطبيقات التوصيل، وجد أن ماكينات الصرف الآلى لا تزال معطلة، وحين حاول الدفع أيضا إلكترونيا لم ينجح الأمر. اعتذر للسائق، وأبلغه أنه لن يستطيع إتمام الرحلة لأنه لا يملك نقودًا ورقية ، فكان رد السائق مفاجئًا: «هتروح إزاي؟ مشوارك بعيد وإحنا فى آخر الليل». حاول شعرانى الاعتذار مجددًا، لكن السائق قال له: «اركب بس.. وابقى ابعتلى الفلوس لما الدنيا تشتغل.. الدنيا مش هتطير»، فى مشهد إنسانى أثّر فيه بعمق. وأكد شعرانى أنه طالما سمع من لاجئين إلى « أم الدنيا» عن شهامة المصريين وطيب تعاملهم، وكان يظن أن فى الأمر مبالغة، حتى جاء هذا اليوم ليرى بنفسه أن المصريين لا يزالون بخير، وأن «الجدعنة» باقية فى هذا البلد رغم كل شيء.. واختتم شهادته بتوجيه الشكر لرجال الحماية المدنية الذين واصلوا العمل حتى الساعات المتأخرة لمحاولة إنقاذ الموقف ناعيا من راحوا ضحية هذا الحادث الأليم. بلا حدود أما سيف الدين حمدان، طالب، يرى أن جمال المصريين يكمن دائما فى قلوبهم الطيبة حتى لو كانت ظروفهم المعيشية ميسورة وأكبر دليل على ذلك معرفته بسيدة بسيطة تعمل فى تنظيف المنازل تبرعت بتنظيف بعض بيوت المغتربين فى المنصورة من البسطاء دون مقابل منهم، وهذا الموقف لمس قلبه كثيرا وأن جمال المصريين ليس له حدود، تعجز الكلمات عن التعبير عنه. ذكاء عاطفي يُفسّر د. محمد رمضان دريوة، استشارى الصحة النفسية، سلوكيات الجدعنة والشهامة التى يتسم بها المصريون، خاصة فى لحظات الأزمات، من خلال ثلاثة أبعاد نفسية متجذرة فى الشخصية المصرية، تشكّل معًا ما يُعرف بالطابع الجمعى للنجدة أو الميل الفطرى لمساعدة الآخر. يضيف أن المصريين يتمتعون بما يُعرف بالذكاء العاطفى الجمعي، وهى القدرة على فهم مشاعر الآخرين والتفاعل معها بتعاطف تلقائي. هذا الذكاء لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد ليشمل مجموعات تربطها مواقف أو ظروف مشتركة. ويقول: ستجده واضحًا فى مشاهد بسيطة مثل ركوب المترو، حيث يتبادل غرباء الحكايات والأحزان، ويجد أحدهم فى الآخر أذنًا مصغية. رأيت بعينى سيدة تحمل حفيدها وتشرح معاناتها فى التنقل للعلاج من محافظة بعيدة، فتفاعل معها الركاب، وقدموا لها المساعدة، لا كصدقة، بل كشكل من أشكال المشاركة الوجدانية. هذه اللحظة اختصرت الكثير: نحن شعب يتعاطف، يشعر، ويتصرف. المرونة النفسية، بحسب د. رمضان، هى قدرة الفرد على مواصلة العطاء رغم المعاناة. يشرح قائلًا: المصرى قد يمر بأزمة مادية أو صحية قاسية، لكنه لا يتردد فى تقديم المساعدة لمن حوله، وكأنه يتجاوز ألمه ليقف إلى جانب الآخرين. هذا سلوك فطرى متجذر، نابع من رغبة داخلية فى الإحساس بالجدوى والكرامة. ويحذر من خطورة فقدان هذه المرونة، قائلًا: إذا استسلم الفرد لمشكلاته وتخلى عن مساندة الآخرين، يتحول المجتمع إلى كيان هش. لكن المصريين ما زالوا يحتفظون بهذه القدرة الإنسانية النادرة، التى تُشكل سندًا نفسيًا متينًا فى مواجهة الأزمات الجماعية. أما ثالث المهارات النفسية التى تفسر «الجدعنة المصرية»، فهى دافع الانتماء، وهو شعور داخلى يجعل الإنسان يرى نفسه جزءًا لا يتجزأ من الجماعة، ويشعر بمسؤولية حقيقية تجاه من حوله، سواء على المستوى الضيق (الأسرة والحي)، أو الواسع (الوطن كله). يقول د. رمضان: «عندما يشعر الفرد بالانتماء، تتولد لديه دوافع أن يكون نافعًا، وهذا ما يعزز تقديره لذاته. المواطن الذى يندفع لإنقاذ جيرانه من حريق، أو يضحى بحياته ليمنع انفجارًا فى محطة وقود، أو يتسلق جدارًا لإنقاذ طفل معلق فى نافذة، لا يفعل ذلك من باب البطولة، بل من باب الواجب والانتماء، الذى يسبق أى حسابات». ويختم الدكتور حديثه بالتأكيد على أن هذه القيم ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية، قائلًا: «الجدعنة، الشهامة، التضحية... كلها ليست استثناءات، بل هى تعبير طبيعى عن تركيبة نفسية واجتماعية وثقافية لا يمكن للمجتمع المصرى أن يصمد بدونها. وكلما زادت التحديات، زاد احتياجنا لهذه القيم لتكون خط الدفاع الأول عن تماسكنا». أخلاق القرية على الرغم أن العالم صار فى هذا العصر التكنولوجى قرية صغيرة، إلا أن الفجوة اتسعت حتى بين أفراد الأسرة الواحدة وكأنهم فى كون كبير، وبات كل فرد يهيم فى ملكوت خاص به ينظر فى شاشته والبعض حتى إذا حضر حادث أو فاجعة يتجه للتصوير بدلا من المساعدة، لكن هذه السمات الجنونية التى اتجه إليها العالم لم تسيطر إلا فى حالات بسيطة على الطابع المصرى بتكوينه الفريد، «الشخصية المصرية تركيبة نادرة، لا مثيل لها فى أى مجتمع آخر»، هكذا يصفها د. فتحى قناوى ، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، مؤكدًا أنها مزيج فريد من المروءة، والشهامة، والجدعنة، وأن معدلات الجريمة تقل وقت الأزمات، لأن المصرى يضع نفسه مكان الأخرين، ويتعايش مع الواقع، وهذا نادرا ما تجده فى أى تركيبة لمجتمع آخر. يشير إلى أن أوقات الأزمات، مثل حرب أكتوبر قلت معدلات الجريمة بشكل واضح، وفى خضم جائحة كورونا، أو حتى حريق سنترال رمسيس كمثال، ظهر المعدن الأصيل للمصريين، فحين يشعرون بالخطر، تتجرد تصرفاتهم من الذاتية، وتظهر أخلاقيات القرية التى أصبحنا نفتقدها فى بعض المواقف، لتربط المجتمع من جديد وتؤكد على أن الجميع يقف «إيد واحدة». ويضيف أستاذ كشف الجريمة أن الظروف تجبر الناس على التأقلم، لكن يبقى المحرك الأساسى لها هو الضمير والانتماء للمكان والأخلاق. يختتم د. فتحى قناوى حديثه بتأكيد أن تطور أى أمة يبدأ من أخلاقها: «الأخلاق هى اللى بتبنى الأمم، والمصرى وقت الأزمة دايمًا بيرجع لأصله، واللى هو الخير والمساندة والتضحية». أكتوبر تَشهد فى فترة حرب أكتوبر سنة 1973 ذكرت سجلات الأمن العام والأجهزة المعنية، أن مؤشرات معدل الجريمة تراجعت تراجعا مذهلا ، كادت معه أن تخلو سجلات الجريمة من الجرائم الجنائية واقتربت من الرقم صفر، فقد كشفت السجلات حينها أن المحاضر والبلاغات بأقسام الشرطة والنيابات خلت خلال الأيام الثلاثة الأول من الحرب من تسجيل سوى الجرائم المعروفة لدى أجهزة الأمن بالجرائم العارضة، وفى يوم 7 أكتوبر خلت القاهرة من جرائم «النشل»، وفى سجلات الجنايات الكبرى فى الفترة التى بدأت من 6 وحتى يوم 21 أكتوبر، انخفضت عن مثيلتها فى العام السابق من 95 جناية عام 1972 إلى 71 جناية فى أيام الحرب وبنسبة كبيرة هى 26%، وطبقاَ للتسجيلات فقد تراجعت أرقام جنايات السرقة الكبرى من 11 جناية فى الفترة نفسها من العام السابق إلى 7 جنايات بنسبة 40%،حسب سجلات الأمن العام. خير وسلام قال الدكتور جمال فرويز، استشارى الطب النفسي، إن الشخصية المصرية فى أصلها شخصية «نهرية»، أى نشأت على ضفاف النيل، مما جعلها تميل بطبيعتها إلى الخير، والسلام، وحب التعاون، وتقبل الآخر دون خوف منه، وهو ما أكسبها قبولًا اجتماعيًا واسعًا. وأضاف أن المصريين تاريخيًا كانوا يتقبلون الغريب، والدليل على ذلك أن أغلب أولياء الله الصالحين المدفونين فى مصر ليسوا من أبنائها، لكن الناس أحبوهم وتعلقوا بهم، وأشار إلى أن ذلك يعود إلى منظومة القيم التى كانت تحكم المصريين، والتى تمثلت فى أخلاق الحارة، حيث «كان لكل حارة كبير يُنظم شؤونها، ويكون مرجعية لأهلها»، مضيفًا أن المصريين دائمًا ما كانوا يبحثون عن «كبير البلد» أو المنطقة للتعامل معه، كنوع من التقدير للنظام الاجتماعى والتراتبية المجتمعية. وأكد فرويز أن الشخصية المصرية رغم ما مرّ بها من احتلالات وغزوات، مثل الهكسوس، والصليبيين، والفرنسيين، والإنجليز، ظلت محافظة على خصائصها ولم تتغير، حتى وان مرت مصر ببعض التغيرات التى أثرت فى البعض بسبب «تأثير الاحتلال الفكري» إلا أن المجتمع المصرى لا زال يحتفظ بالسمات الطيبة.