في مشهد يعكس عظمة التاريخ المصري وثراء حضارته الممتدة تحت الماء كما على اليابسة، نجحت وزارة السياحة والآثار في انتشال خمس قطع أثرية ثقيلة من أعماق البحر المتوسط بمنطقة أبي قير البحرية، بالتوازي مع إطلاق فعاليات التراث الثقافي المغمور بالمياه وافتتاح معرض "أسرار المدينة الغارقة" بمتحف الإسكندرية القومي. هذه الخطوة تأتي لتؤكد أن الإسكندرية ما زالت تخفي بين أمواجها أسرار حضارة لم تُروَ بعد. أعلن شريف فتحي وزير السياحة والآثار، في مؤتمر صحفي عقد عقب عملية الانتشال، أن الوزارة تمكنت من إخراج خمس قطع أثرية كبيرة من قاع البحر، مشيرًا إلى وجود عدة مقترحات قيد الدراسة، من بينها إنشاء متحف خاص للآثار الغارقة أو حتى متحف تحت الماء، بحيث يتمكن الزوار من مشاهدة هذه الكنوز في بيئتها الأصلية. اقرأ أيضًا | احتفالًا بالعيد القومي للإسكندرية.. إقبال كثيف على المواقع الأثرية بالمحافظة وأكد الوزير أن الوزارة لا تستطيع انتشال جميع القطع الأثرية الغارقة، التزامًا باتفاقية اليونسكو التي تحظر نقل بعض القطع حفاظًا عليها من التلف، موضحًا أن ما يتم انتشاله هو فقط ما تسمح حالته بذلك. من جانبه، أوضح الفريق أحمد خالد حسن، محافظ الإسكندرية، أن أعمال الانتشال تمثل إضافة كبرى للمحافظة، مشيرًا إلى أن هناك كشفًا أثريًا مرتقبًا لسفينة غارقة سيُعلن عنه قريبًا، بالتزامن مع المشروعات التنموية الجارية مثل مشروع قطار أبو قير الذي يعيد رسم ملامح المدينة وربطها بسواحلها. أما الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، فقد أشار إلى أن التماثيل المكتشفة مؤخرًا وُجدت دون رؤوس أو أقدام، مما يعزز الفرضية القائلة بأن كارثة طبيعية – مثل زلزال أو انهيار أرضي – كانت وراء غرق هذه المدن بكاملها في مياه البحر. وأضاف أن هذه القطع تعود إلى العصر البطلمي وتشكل دليلًا جديدًا على وجود مدن مزدهرة ك"كانوب" و"هيراكليون" تحت سطح البحر. وفي موازاة ذلك، شهدت الإسكندرية انطلاق فعاليات التراث الثقافي المغمور بالمياه، حيث افتتح الوزير والمحافظ معرض "أسرار المدينة الغارقة" بمتحف الإسكندرية القومي، والذي يضم 86 قطعة أثرية نادرة من مكتشفات أبي قير، إلى جانب افتتاح مكتبة متخصصة تحتوي على 1100 كتاب في مختلف مجالات الآثار والترميم والثقافة، مزودة بآليات تتيح الخدمة لغير المبصرين. وأكد الوزير أن هذه المكتبة ستدخل ضمن منصة EgyTap الإلكترونية التي أطلقتها الوزارة مؤخرًا لنشر المعرفة وتعزيز التفاعل الرقمي مع الجمهور. - حكاية اكتشاف الآثار الغارقة: تعود بدايات اكتشاف آثار الإسكندرية المغمورة إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حينما بدأت تقارير متفرقة تتحدث عن بقايا معابد وتماثيل تحت مياه خليج أبي قير. لكن الانطلاقة الحقيقية كانت في تسعينيات القرن الماضي بفضل البعثة الفرنسية بقيادة عالم الآثار "فرانك جوديو"، والتي نجحت في الكشف عن مدينتي كانوب وهيراكليون الغارقتين، حيث عُثر على تماثيل ضخمة لآلهة فرعونية ومعبودات إغريقية، إضافة إلى بقايا موانئ ومعابد وأسواق كانت مزدهرة قبل أن يبتلعها البحر بفعل الزلازل والفيضانات. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الإسكندرية مرجعًا عالميًا في دراسة التراث الثقافي المغمور بالمياه، الذي لا يزال يكشف عن أسراره حتى يومنا هذا. يحكي أعضاء البعثة الفرنسية أن لحظة العثور على أول تمثال ضخم في مدينة هيراكليون الغارقة كانت أشبه بلقطة سينمائية لا تُمحى من الذاكرة. أثناء الغوص وسط المياه العكرة ورمال البحر الثقيلة، التقط أحد الغواصين بريقًا غير مألوف، فاقترب ببطء ليكتشف أن ما يلمع ليس صخرة عادية، بل جزء من خد نحتٍ حجري عملاق. ومع إزاحة الطمي تدريجيًا، بدأت الملامح تتضح: أنف مستقيم، عينان غائرتان، وشفتان ثابتتان توحيان بالهيبة والخلود. وما هي إلا دقائق حتى تكشفت المفاجأة الكبرى: تمثال ضخم للإلهة إيزيس يقف بجوار تمثال آخر للملك البطلمي، بطول يناهز خمسة أمتار، وكأنهما ينهضان من سبات استمر أكثر من ألفي عام. ارتجف الغواصون من رهبة اللحظة، ووصف فرانك جوديو المشهد بقوله: "لقد بدا الأمر وكأننا أيقظنا مدينة نائمة تحت البحر". منذ تلك اللحظة، أدرك العالم أن مياه الإسكندرية لا تخفي مجرد بقايا، بل تحرس بين أمواجها مدينة أسطورية كاملة، تروي قصة حضارة لا تزال تنبض بالحياة حتى وهي في أعماق البحر.