تحت أمواج البحر الأبيض المتوسط تختبئ حكايات مدن كاملة، كانت يومًا نابضة بالحياة، وصارت اليوم متاحف صامتة في أعماق المياه. هنا، حيث أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية لتكون منارة العالم القديم، يقف التاريخ شاهدًا على عظمةٍ لم تُمحَ رغم الغرق والزلازل. ورغم مرور أكثر من ألفي عام، فإن كل اكتشاف جديد يعيد رسم صورة مدهشة عن تلك المدن الغارقة التي حملت أسرار التجارة، والطقوس الدينية، وأمجاد الحضارات التي ازدهرت على السواحل المصرية. ** الإسكندرية.. مدينة الفاتح وأحلام البحر في عام 332 قبل الميلاد، أرسى الإسكندر الأكبر دعائم مدينة الإسكندرية على أنقاض قرية صغيرة للصيادين تُسمى "راكوتس"، خطط لها لتكون ملتقى حضارات الشرق والغرب، وجعل من جزيرة فاروس قاعدة لإقامة منارة اعتُبرت الأعجوبة السابعة في العالم القديم، لكن عوامل الطبيعة والزلازل غيّرت ملامح المدينة، لتبتلع الأمواج أجزاء واسعة من قصورها ومعابدها. ** بدايات الاكتشافات تحت الماء مع مطلع القرن العشرين، قادت المصادفة أولى الاكتشافات. ففي عام 1910، عثر المهندس الفرنسي جاستون جونديت على بقايا أرصفة قديمة أثناء توسيع الميناء الغربي، ثم جاء عام 1932 ليشهد اكتشافات الأمير عمر طوسون في خليج أبو قير، حيث ظهرت ملامح مدينتي ثونيس-هرقليون وكانوبس، اللتين سبقتا الإسكندرية وازدهرتا كموانئ كبرى على البحر المتوسط. ** بعثات أثرية وكنوز غارقة في ستينيات القرن الماضي، أضاف الغواص المصري كامل أبو السادات فصلًا جديدًا في هذه الحكاية، بعدما اكتشف تماثيل ضخمة منها تمثال الملكة أرسينوي الثانية على هيئة الإلهة إيزيس. تتابعت بعدها البعثات العلمية بقيادة باحثين عالميين مثل جان إيف إمبيرور وفرانك جوديو، ليُعثر على آلاف القطع، من تماثيل أبي الهول إلى أعمدة المعابد، وصولًا إلى بقايا منارة فاروس. ** تقنيات حديثة تعيد الحياة للتاريخ بفضل التكنولوجيا الحديثة، أصبح استكشاف الأعماق أكثر دقة، أجهزة الاستشعار والتصوير ثلاثي الأبعاد سمحت بالكشف عن موانئ كاملة وشبكات من الأرصفة والجزر الصناعية التي شكّلت قلب الإسكندرية القديمة، ومن بين أبرز الاكتشافات سفينة بطلمية جنائزية عُثر عليها في خليج أبو قير عام 2021، حُفظت بفضل سقوط معبد آمون عليها أثناء كارثة طبيعية. ** مدن غارقة ومعارض عالمية لم تبق هذه الكنوز في الأعماق فحسب، بل جابت العالم عبر معارض كبرى مثل "أوزوريس: أسرار مصر الغارقة" و"المدن الغارقة: عوالم مصر المفقودة"، التي أقيمت في باريس ولندن وواشنطن. هذه العروض أعادت رسم صورة مصر كوجهة ثقافية وسياحية فريدة، وربطت بين الماضي الغارق تحت الأمواج والحاضر المتعطش لاكتشافه. ** حلم المتحف الغارق في الإسكندرية رغم الجهود والمعارض، يبقى الحلم الأكبر هو إنشاء متحف تحت الماء في الإسكندرية، يتيح للزوار الغوص في التاريخ حرفيًا، ومشاهدة المنارة الغارقة والتماثيل المهيبة في مكانها الأصلي، مشروع كهذا سيجعل من مصر قبلة لعشاق المغامرة والتاريخ، ويفتح فصلًا جديدًا في استثمار التراث الغارق لتعزيز السياحة. إن حكايات المدن الغارقة ليست مجرد أساطير تُروى، بل حقائق تكشفها الأمواج قطعة بعد أخرى، من ثونيس-هرقليون إلى الإسكندرية، ومن المنارة الغارقة إلى السفن البطلمية، لا يزال البحر الأبيض المتوسط يخفي الكثير، وربما تحمل الأعماق غدًا اكتشافات أعظم تُعيد كتابة تاريخ السواحل المصرية، وتؤكد أن التراث الغارق ليس مجرد ماضي، بل مستقبل سياحي واعد لمصر. اقرا ايضا | «إناء ذهبي ملكي» يروي أسرار «آمون-إم أوبت» تحفة أثرية في المتحف المصري