بين الحين والآخر، تظهر شائعات تروّج لها لجان إلكترونية باصطناع جدل حول أصول قامات الفن المصري. يبدأ الأمر بمنشور هنا أو هناك يقول مثلًا إن أم كلثوم أصولها ترجع إلى إحدى الدول العربية، إذن فأم كلثوم ليست مصرية ولا تمثل الفن المصري! يرد المصريون على المنشور بطبيعة الحال، فتتحول المعلومة غير الحقيقية إلى قصة يؤخذ منها ويُرد! وهكذا مع عبد الحليم حافظ وسعاد حسني، وأسماء غيرهما. تكرر الأمر كثيرًا فيما يشبه المواسم.. "سرقات موسمية" لمحاولة التشكيك في خلود مصر الفني، وفي أنها المبتدأ لكل القيم الإبداعية والمنتهى لنجوم كل الفنون. والغريب أن يتردد هذا بينما أشهر نجوم الفن العرب منذ بدايات القرن العشرين هم صناعة وصياغة مصرية، بالرعاية والدعم والتقديم والشهرة والحضور، ويتباهى أصحاب الموهبة على مدى أكثر من 125 عامًا بكونهم مرّوا على مصر أو أقاموا فيها أو عملوا مع رواد الإبداع بها. حول هذا الجدل الموسمي، تحدثنا مع عدد من النقاد والمؤرخين الفنيين لنقف على الأسباب. في البداية تقول الناقدة ماجدة موريس: أندهش وأتعجب من الزعم بأن الفنانين المصريين من جنسيات أخرى، خصوصًا أن الرموز المعروفة لدينا، تاريخها وأصلها وفصلها معروف للجميع. وأوضحت موريس: لدينا توثيق لقصة حياة أم كلثوم منذ ولادتها حينما وُلدت في قريتها بالقلوبية، فتاريخها موجود ومشاهد منذ كانت طفلة. فليس ما يُقال ويُطلق من كلام يمكن أن يُصدق، إلا إذا أكد الفنان نفسه ذلك بلسانه، كأن يصرح بانتمائه لأصول غير مصرية، فهذا دليل من صاحبه، أما أن يأتي الكلام بعد 50 سنة من رحيل أم كلثوم، وكل تفصيلة عن حياتها مسجلة ومدونة وموثقة، وعُمل عليها مسلسلات وأفلام وثائقية حتى خارج مصر، فهناك فيلم إيراني، وفيلم فرنسي، وأكثر من 10 أفلام وثائقية قدمت عن حياة كوكب الشرق أم كلثوم، باعتبارها "معجزة الأغنية العربية". وبالمناسبة، من أطلق عليها لقب "كوكب الشرق" هم الفرنسيو، لكن القدرة على النزيف الفني (المنح الإبداعي) قدرٌ لمصر، فقدرنا كدولة ذات تاريخ كبير وعظيم يجعلنا دائمًا مطمعًا للآخرين. واختتمت موريس قائلة: التصدي لهذه الشائعات — كالتشكيك في أم كلثوم — يكون مثلًا بإعادة عرض الفيلمين من جزأين اللذين تم تقديمهما كأحد أروع الأفلام الوثائقية عن حياتها، أو إنتاج نسخ مختصرة منها توضح حياتها منذ ولادتها وحتى صعودها، وكذلك المسلسل الذي قدم عنها، والذي يحفظه كثير من الناس. ومن الجيد ما قامت به القناة الثقافية مؤخرًا، إذ بدأ الإعلامي أحمد المسلماني منذ شهرين عرض حفلات لأم كلثوم في الحادية عشرة مساءً، وهي خطوة تستحق التقدير. كما يجب إعادة تقديم أعمال هؤلاء الفنانين وإذاعتها للاحتفاء بهم. ويقول الناقد كمال رمزي: ما يزعجني في هذه الموجة من التشكيك والشائعات أنها تصدر معلومات غير صحيحة. على سبيل المثال، عبد الحليم حافظ، لنفترض أنه وُلد في أي بلد آخر، فماذا سيغير هذا في كونه مصريًا؟ فهو ابن مصر. ووردة الجزائرية، فهي من الجزائر، ولكن من يجرؤ ويقول إنها ليست لها علاقة بمصر؟ وأنا أرى أن أسماء النجوم الكبار قدموا لمصر، ومصر قدمت لهم، سواء ظهروا من داخل مصر أو من خارجها، لا فرق. هؤلاء الناس عاشوا وقدّموا مواهبهم، ومصر احتضنتهم، سواء كانوا من أبنائها أو من أبناء بلدان أخرى. ففايزة أحمد لم تولد في مصر، فمن يقول إنها ليست مصرية؟ اقرأ أيضا: في ذكرى ثورة يوليو 1952.. أغنيات عزفت لحن الوطن وهنا الفارق في أمر مهم: الأكاذيب هنا كثيرة، بينما نجد أن في هوليوود عددًا كبيرًا من كبار النجوم جاءوا من الخارج، وعلى رأسهم تشارلي شابلن. من يقدر أن يقول إنه ليس أمريكيًا؟ في النهاية، أرى أن الأكاذيب التي تتردد حول هذا الموضوع صغيرة جدًا، أصغر من رأس الدبوس، لا تستحق الالتفات إليها، ولن تغير شيئًا. فمثلًا الفنانة الراحلة صباح، ما المشكلة في أنها لبنانية؟ جاءت لمصر، وكانت أعمالها في مصر من أرقى ما يكون، وعاشت سنوات طويلة كمصرية. فمصر أم كبيرة وحنونة إلى أقصى درجة، سواء على أبنائها أو من تبنّتهم من الخارج، ولهذا لا أرى أن يُنقص من قدر فنان القول إنه من بلد آخر. في المقابل يقول الناقد طارق الشناوي: لا داعي أن نعطي الأمر حجمًا كبيرًا، لأن أصول الفنان لا تعيبه أو تنتقص منه شيئًا. فمثلًا جذور سعاد حسني وشقيقتها نجاة فلسطينية الأصل، وقيل أيضًا إنها سورية، فهذا لا أراه يقلل أبدًا من الفنان، بل يمنحه عمقًا. وأتذكر في حوار جمعني بالفنانة الراحلة تحية كاريوكا أنها من جذور سعودية. هنا أسأل: ما المشكلة أن يكون للفنان جذور سعودية أو مغربية؟ هذا لا ينقص منه شيئًا، ولا يجب التوقف عند هذا الموضوع، لأنه يمكن أن يكون لأي إنسان مثلًا جذور يمنية. ومن وجهة نظري، الموضوع بمجمله ليس به أي مشكلة، ولا ينتقص من مصرية الفنان أبدً، فإذا ثبت أن السيدة أم كلثوم جذورها سعودية، لا توجد أي مشكلة، أو العندليب إذا كان حقيقة، فليس به أي مشكلة. بالمناسبة، تامر حسني صرّح بأن أمه سورية وهو يعتز بهذا، فهل هذا سوف يغير شيئًا من كون تامر مطربًا وممثلًا مصريًا؟ الفنانة ماجدة الرومي صرحت بأن والدتها مصرية، فهل معنى ذلك أن ماجدة تتنصل من لبنانيتها؟ وتقول الناقدة ماجدة خيرالله: أنا أرى أن هذا الموضوع ليس إلا محاولات فاشلة، لأن هؤلاء مرتبطون جدًا بالواقع المصري، ولم يعرفوا إلا من خلال مصر، حتى لو كانت لهم أصول بعيدة أو عربية. ولكن نشأتهم وحياتهم ووجودهم وإنتاجهم كان في مصر، فمن المفترض ألا نلتفت لهذه الأكاذيب والكلام الفارغ. فهي محاولات واهية سوف تذوب وحدها. التجاهل لهذه الأكاذيب أسلم شيء. عبد الحليم حافظ، منذ الخمسينيات، مصري وعاش في الزقازيق، فليس هناك مجال للتشكيك في ما إذا كانت أمه مصرية أم لا.